في ذكرى هدم الخلافة – الأستاذ أبو بكر
منذ ثمانية وثمانين عاماً حدث أعظم حدث في تاريخ الإسلام الحديث، حدثٌ كان له ما بعده، حدثٌ قسم المسلمين لدويلات عديدة، وعبدهم الطواغيت الرأسمالية، هذا الحدث هو نجاح دول الكفر مجتمعة وبمعاونة من فئة خائنة مجرمة من أبناء جلدتنا من إسقاط دولة الخلافة وإبعاد الإسلام عن تسيير أمور الحياة والحكم والاستماتة في خلع الإسلام من جذوره ومن قلوب معتنقيه.
أيها السادة: لم أكتب هذا المقال لأندب كما يندب النادبون، ولا أذكر هذه الذكرى الأليمة جرياً على عادة ما يفعله البعض من تذكر أمر مضى لإراحة النفس من هم كبير بالتنفيس عن عواطف حبيسة، وأحزان مكبوته ولأقنع نفسي بأنني فعلت ما يجب علي فعله. إنني أكتب أيها السادة ليعلم الجميع ويحس الجميع بفظاعة الحدث، وليعلم الجميع أيضاً أن الندب ليس بكاف، بلا لا بد من أخذ العبر لنحقق القول المشهور: السعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه.
أيها السادة: لقد كان سقوط الخلافة جريمة ما بعدها جريمة كما كان حصاد عمل امتد قرونا عديدة، أحبك فيها أعداء الإسلام عناصر وخيوط الجريمة إذ أيقن الكفار المستعمرون أنهم وحدهم لن يستطيعوا إسقاط الخلافة، ولهذا عملوا دون كلل أو ملل على إيجاد طابور خامس متمثلاً بفئة مارقة منافقة محسوبة على المسلمين ليتولوا جميعاً كبر هذا العمل الفظيع، ولهذا سهر الكفار المستعمرون على زرع هؤلاء العملاء في كل جهاز من أجهزة حكم الدولة الإسلامية وكل ناحية من نواحي الحياة وكل ركن من أركان الدولة وكان من الترهات التي زرعوها في أذهان المسلمين أن الإسلام هو سبب تأخر المسلمين، وأن الإسلام عاجز عن حل مشاكل المسلمين، وأن الإسلام لا يستطيع مجاراة العصر الحديث، وانطلت هذه المقولات الكاذبة على المسلمين، ففقدوا ثقتهم بدينهم وبالتالي فقدوا ثقتهم بأنفسهم وبقدراتهم فران العجز والكسل على كثير من النفوس واستسلم المسلمون للقدرية الغيبية التي نهينا عنها فأصبح المسلمون تبعاً لذلك يطلبون الخلاص والنجاة والرفعة والتقدم من غير الإسلام، وأيم الله إنها كانت طامة كبرى كان لها ما بعدها، إذ أخذ المسلمون يعتقدون أن الكفار لا يريدون بهم الشر وإنما يبغون لهم الخير والعز والتقدم، تماماً كما فعلت أمريكا وغيرها من أعداء المسلمين في الوقت الحاضر عندما غزت بلادهم لتحريرهم وليس لاستعبادهم ونشر الأفكار الديمقراطية الراقية على زعمهم فاستأنس العملاء بأعدائهم واستوحشوا من إخوانهم فكانت النتيجة كما ترون.
أيها السادة: ليست الفظاعة ما يدبره لنا الكفار المستعمرون فهم أعداء وليس هذا بمستغرب منهم ولكن الفظاعة كل الفظاعة والجسامة كل والجسامة أن تتولى فئة مارقة خائنة مجرمة من أبناء جلدتنا كبر ما يخططه لها أسيادها الكفار المستعمرون، ولقد ولغت هذه الفئة الخائنة في الخيانة والنذالة حتى النخاع، وقد أدرك بعضهم بعد فوات الأوان فظاعة أفعاله، وصرح البعض بذلك، إذ صرح بعض أركان جمعية الإتحاد والترقي كأنور باشا وطلعت باشا أنهم كانوا ضحايا لمكائد ومؤامرات أعداء الإسلام كالدول المستعمرة الكافرة الخبيثة وبعض الجمعيات الخبيثة كالماسونية وغيرها، ولكن العجب كل العجب أن يبقى عدداً كبيراً من هؤلاء العملاء يحمدون فعالهم الخبيثة بل ويحتفلون بسقوط الخلافة ويعتبرونه مجداً وثورة كبرى يجب أن يحتفل بها وخاصة من يدعون كذباًَ وزوراً رفعة في النسب ومجداً كانوا أهله! عجباً لهؤلاء كيف قبلوا ويقبلون الآن أن يسموا بأسمائهم وأن يعتبروا أنفسهم رجالاً وبشراً، فلقد وصلوا في الخيانة مدى بعيداً ووصلوا في النذالة درجة تترفع عنها الكلاب والخنازير وإنني أعجب كيف يرضى أبناؤهم الانتساب إليهم بعد أن انكشف المستور وسقط القناع والنقاب عن هذه الوجوه النجسة وسيأتي اليوم العظيم إن شاء الذي سيتبرأ هؤلاء وأولادهم من فعالهم الخسيسة وأفعالهم الدنيئة.
أيها السادة: لقد كان فظاعة عمل العملاء مذهلة ولكن الأشد منه فظاعة عدم اتخاذ العلماء المخلصين والمثقفين الواعين وأغلب أفراد الأمة الإجراء المناسب لإحباط مكائد المستعمرين والعملاء هذا الإجراء الذي كان يجب أن يصل إلى حد الحياة أو الموت فكيف انطلى هذا التضليل على المخلصين من أبناء الأمة؟ وكيف قبل المسلمون أن تقسم ديارهم وتحتل أوطانهم؟ بل كيف قبلوا أن يوضع الإسلام على الرف، ويبعد الإسلام عن تسيير دفة أمور الحياة والحكم؟ بل كيف قبلوا أن يحكموا بأحكام الطاغوت أحكام القانون الوضعي الفرنسي والبلجيكي والإنجليزي؟ بل كيف قبلوا أن تلغى الخلافة التي كانت تجمع شملهم وتلم شعثهم؟
أيها السادة: إن ضياع الخلافة كان أمرا جللا وكان مما لا يحتمل وقوعه ومما لا يصدق حدوثه، لقد ذهل المسلمون في الماضي بعد سقوط الخلافة العباسية على يد التتار ولم يصدقوا ما حدث، ولهذا فسرعان ما أعاد المماليك في مصر قيام الخلافة من جديد.
أيها السادة: أقول هذا بعد بحث كبير واستقراء للتاريخ عظيم إن الفقهاء المسلمين لم يجتهدوا الاجتهاد المطلوب في إيجاد آلية لإعادة الخلافة من جديد ليس لقصور منهم أو لجهل منهم وإنما لم يفعلوا ذلك لأن الاجتهاد يكون في المسائل العملية وليس في المسائل النظرية أو المفترضة ولم يكن متصوراً أيها السادة أن تلغى الخلافة أو أن يعيش المسلمون بدون خليفة فتصوروا فظاعة أن يعيش المسلمون دون خلافة وأن يرضى المسلمون أن يتحاكموا إلى الطاغوت. لقد سعى أسلافنا المماليك لسحق التتار وإعادة الخلافة واتخذوا القاهرة عاصمة للخلافة، ثم سلم المماليك الراية للدولة العثمانية بعد أن تولت الدولة العثمانية توحيد بلاد المسلمين.
بقيت مسألتان أيها السادة أما أولاهما فهي النتائج الكارثية المذهلة لإلغاء الخلافة، والثانية ما هو واجبنا في الوقت الحاضر بعد جريمة إلغاء الخلافة عام 1924م.
أما الأولى: فكانت غياب الإسلام عن الحكم وإدارة شؤون الحياة وخضوع المسلمين لحكم الطاغوت مهما كان نوعه وأيا كان مصدره.
وأما النتيجة الثانية: فكانت تمزيق أوصال المسلمين وقيام دويلات متعادية متدابرة تخدم الكافر المستعمر وتركز الحواجز الفكرية والمادية بين المسلمين للحيلولة دون عودتهم من جديد لتولي قيادة العالم وإنقاذ البشرية فرسمت الحدود ومنع المسلمون من التنقل ووضع المسلمون في كل دويلة في سجن كبير وكانت هذه هي المرة الأولى التي يمنع المسلمون فيها من التنقل والتواصل فضاقت الأرض بالمسلمين المخلصين على سعتها ووضعت قوانين الجنسية والإقامة والجمارك وغيرها فأصبح الأخ في دولة والأخ الآخر في دولة أخرى وأصبح العم في دولة وابن الأخ في دولة أخرى والأب في دولة والأبناء في دولة أخرى وأصبح سكان مدينة مفطرين وجيرانهم من دويلة أخرى صائمين التزاماً وطاعة لأمراء السوء ودول الضرار التي تحكمهم، وحدث من المضحكات المبكيات ما يستحق أن يكون مما يتندر به ولم يكتف أمراء السوء وأسيادهم المستعمرون فجلبوا لنا شذاذ الآفاق من اليهود وأقاموا دولتهم المسماة بإسرائيل ويحاولون الآن إجبار المسلمين في أنحاء الأرض على الاعتراف بها والتعايش والتطبيع معها، هذا غيض من فيض النتائج الكارثية التي كانت بركة من بركات أهل الخيانة والنذالة وأسيادهم المستعمرين، أما والحالة هذه، فما هو واجبنا اليوم؟ هل نرضى أيها السادة بغضب الله سبحانه ولمقته؟ هل نرضى ونعطي الدنية؟ هل نرضى أن نبقى كرة تتقاذفها أرجل أعدائنا؟ وهل نرضى أن يستنسر البغاة بأرضنا؟ هل نرضى أن نحكم بغير الإسلام، وأن نبقى أمة متعادية متدابرة طمعاً للآخرين، وميداناً لتجربة أسلحة الآخرين، ومثل سوء لكل ناعق في هذا العالم؟ هل نبقى أن نحكم لغير دولة الإسلام التي تطبق علينا شرع الله وتلبسنا ثوب العز والشرف.
لا أيها السادة وألف لا، الرجال الشرفاء لا يقبلون ذلك، الرجال الشرفاء لا يقبلون معصية الله ولا يقبلون الذل والهوان ولا يرضون بالهوان والغبن والخسران والإذلال.
الرجال الشرفاء أهل للمروءة والمجد أهل للعز والفخار يحتذون بأفعالهم حذو أسلافهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، يحتذون دروب الفاتحين الفرسان والمجاهدين فمن لإرجاع الخلافة إلى الحكم إلا نحن؟ فمن لإنقاذ البلاد والعباد إلا نحن؟ نحن الذين بايعنا الله ورسوله وأميرنا على العمل الجاد وبذل الوسع لإعادة الإسلام إلى الحياة وذلك باستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية، فإلى هذا العمل الشريف إلى هذا العمل العظيم ندعوكم أيها المسلمون: ((يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وإنه إليه تحشرون)).
الله اجعلنا مع العاملين لإقامة دولتك وإعلاء راية دينك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أبو بكر