سفينة النجاة في الحياة والممات
لقد عادت الخلافة في الآونة الأخيرة لِتُشكِّل محور الحديثِ في المنابرِ الإِعلاميَّة وفي نقاشاتِ الناس، فبعد الثوراتِ الأخيرةِ أصبحَ لنا مجالٌ أرحب للحديثِ في شتى المواضيع وخاصة التي كانت غامضةً لنا، فحالُنا كالأعمى الذي أبصر فجأةً بقدرة قادر لتختلط عليه الأمور في الوهلة الأولى ثمّ سرعان ما بدأت تتجلى شيئاً فشيئا.
لقد درسونا أنّ الخلافة هي استعمار العجم للعرب وأنَّها سيرك كبير يكون فيه الخليفةُ في مشهد فلكلوري مُحاطاً بالجواري والطَّعام وأن الرعيّةَ عبيدٌ عِنْده وخدمٌ لعائلته؛ نعم هكذا كُنَّا نخالُها للأسف. فقد كانت أفكارُنا رهينةً لمناهجهم العفِنة لكن سرعان ما عاد إلينا رُشدنا عندما بدأنا نتلمس خياناتِهم وتذلُلهم لسيِّدِهِم الغربي، فهُم بحق الجواري في حضرة ولي أمرهم الغربي – من يسمونهم زوراً وبهتاناً حكاماً للمسلمين -. إن ما تحتاجه الأمة اليوم هو تصحيح المفاهيم والمناهج لتميزَ الخبيث من الطيّب ولها في مصادرها المستوحاة من ربِّ البريَّة ما يكفيها مؤونة ذلك.
بيد أن الغرب الكافر وبعد أن دب الوعي في جسد الأمة وراحت تبحث عن الانعتاق من ربقته ونظامه الذي أذاقها الويلات وضنك العيش، لم يلبث أن طور في أساليبه القذرة من أجل حرف الأمة عن مسارها باستئناف العيش بالإسلام وصار مطلب الخلافة يقرع آذان أعداء الأُمّة ويهدد مصالحهم وعروشهم المُعوجّة.
وفجأة نسمع أنّ تنظيماً فوضوياً انتصبَ ليُعلن قيامَ خلافةٍ هكذا دون ضوابطَ شرعيةٍ ودون أن نعلم من الخليفة حتى، ولسان حال القوى الغربية – التي استغلت وحشية هذا التنظيم – يقول: ها هي الخلافة التي ترغبون في إقامتها طوال هذه السنين، هي أشبه بمجزرة كبيرة ومحرقة لصفوة شبابكم، في محاولة يائسة وبائسة من أجل تشويه وشيطنة الخلافة من جديد وهي التي لم تتوقف يوماً، لإدراكهم أنها الوحيدة التي ستنشر الحق وتُزهِق باطلهم وترميه في مكان سحيق.
إن واجب حملة الدعوة والعاملين المخلصين هو المضي قدما في إفهام الناس أسس هذه الدولة العظيمة وفي انسجامٍ تام معهم وبإقبالٍ منقطع النظير لإدراكهم أنها تاجُ الفروض ومبعث عز المسلمين، وأنَّها الحلّ الوحيد لكافة مشاكِلِهم بعد أن أنهكتنا شتى الأنظمة الوضعيَّة والتي واللهِ ما زادتنا إلا رهقاً وذُلًّا وانكساراً، وهم على ثقة بنصر الله وأن مكر أولئك هو يبور.
فكلما صعَّدوا من حربِهم ومارسوا علينا كل أنواعِ الإرهاب والتعذيبِ إلاَّ واقترب النّصر ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾. فها هم حَمَلَةُ الدعوة يُقْتلون تارة ويُسجنون أخرى وذنبهم الوحيد هو السعي لتوحيد الأمّة الإسلاميَّة في ظلِّ نظامِ الخلافة حيث تكون فيه السيادة لشرع الله وَحْدَه – لا لمجالس تأسيسية شركية ولا لمجالس نيابية وثنية -، مُستظِلّةً برايةِ العُقاب راية رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم خلف إمامِ المُسلمينَ وقائِدِهم والذي قال فيه سيدنا عليه الصلاة والسلام: «الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ». وكم نحن في أمسِّ الحاجة لقائِدٍ يكون لنا جُنّة من أعدائنا الذين تكالبوا وتداعوا علينا كما تتداعى الأكَلَةُ على قصعِتها لا يرقبون فينا إلا ولا ذمة… وشِعارهم إنْ أطْعتُمُونا أضللناكم وإنْ عصيْتُمُونا قتلْناكُم، وخيْراتُكُم وثَرَواتُكم مِلكٌ لنا، نَنْهبُها كلَّ حينٍ دون حسيبٍ ولا رقيب.
إن الخلافة ليست مجهولةً عندنا بل هي بوضوح الشمسِ في رابعة النّهار؛ هي رئاسةٌ عامّةٌ للمسلمين جميعا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي وحمل الدعوة الإسلامية للعالم، وإقامتها فرضٌ على المسلمين كافة في جميع أقطار العالم. والقيام به كالقيام بأي فرض من فروض الله؛ هو أمرٌ محتّم لا تخيير فيه ولا هوادة في شأنه، فهي باختصارٍ قضية مصيرية وجب أن يتخذ حيالها إجراء الحياة أو الموت فإما أن تُقام أو نهلك دونها، والأدلة على ذلك عديدة ومستفيضة.
إن الخلافة نظامٌ متميز عن غيره من الأنظمة من ملكيةٍ وجمهوريةٍ وغيرها وهي عقد مراضاةٍ واختيار لأنها بيعةٌ بالطاعة لمن له حقّ الطّاعة من ولاية الأمر. أما الشروط الواجب توفرها في الخليفةِ فهي سبعة: أن يكون مسلماً، ذكراً، بالغاً، عاقلاً، عدلاً، حراً، قادراً من أهل الكفاية، كما أن طلبها والتنازع عليها جائزٌ لجميع المسلمين وليست من المكروهات ولم يرد أي نص في النهي عن ذلك، ولكن ما أوجبه الحكم الشرعيُّ أن يكون الخليفة واحداً فلا يجوز وجود خليفتين لا متفقيْن ولا مفترقيْن، ولنصْبِهِ حدد الشرع الطريقة التي يجري بها ذلك وهي ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة.
وعزل الخليفة ممكن إن تغيّر حاله في أمور ثلاثة؛ رِدتهُ عن الإسلام وإصراره عليها، وجنونه أو أسرُه أسرا ميئوساً فكاكُه منه.
هذا المُختَصرُ المفيدُ؛ لكل إنسانٍ مسلمٍ صادقٍ يرغب أن يتجسد فيه قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
فكيف ذلك وتاجُ الفروض – كما وصَفَها العلماء – معطلٌة وغائبٌة، فالواجب الالتحاق بسفينةِ الخلافة لنرسو على برَّ الأمان ليسود سُلطَانُ الإسلام فنَنْعم في الآخرة بالجنان ويرضى عنَّا الواحد الديّاَن.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
فراس الخبو – تونس