ليبيا بين الفكين
لكل بلد من بلدان العالم الإسلامي خصوصية خصّها بها الله سبحانه وتعالى، منها من أنعم الله عليه بخصوبة الأرض ووفرة المياه بحيث تصبح سلّة للعالم كله إن استُغلت الموارد استغلالا جيداً، ومنها من أنعم الله عليه بالعقول والشباب (عماد الإنتاج والحركة والنمو). والغريب أن هذه الخيرات أصبحت نقمة على أصحابها، لما جرّته عليهم من مصائب وويلات، حيث صارت نهباً لكل طامع من الكفار، وغزا لأجلها كل تافه. فالغرب لما أدرك قيمة البترول وأهميته، خرج من كل حدب وصوب للبحث عنه وحيازته، حتى يضمن الحفاظ على مكانته، في غفلة من الأمة الكريمة التي جعلها الله خير أمة أُخرجت للناس.
ومن هذه البلاد ليبيا، التي خصّها الله بكنوز الأرض، من معادن وبترول. إنها أرض عمر المختار، الذي قاتل الاحتلال الإيطالي، الذي جاء لهدف رخيص في أعين المخلصين، ثمين في أعين الرأسماليين. وتعاقب الاحتلال تلو الاحتلال على هذه الأرض من أجل الحصول على خيراتها.
لكن المحتل البغيض بعد أن أدرك عزة سكان هذه الأرض التي لا تحركها الجبال، لجأ إلى إيجاد عملاء يمكنون له بما فيها، فجاء العميل تلو العميل، وما غادر أحدٌ منهم إلا وخلفه من هو أسوأ منه، وأحرص على خدمة أسياده.
إنّ الاحتلال الغربي، وعلى رأسه إيطاليا وبريطانيا، لما تذوّق طعم ما سرقه من أرض ليبيا، أصبحت المسألة عنده مسألة حياة أو موت، حتى أصبح يظن أن ما خلقه الله ليكون الناس كلهم شركاء فيه قطاع خاص لمن يملك المال والقوة العسكرية، ومنهم من افترى على الله كذباً، وقال أنه أخطأ في التوزيع، ويجب أن توزع وتقسم من جديد!
وحتى نفهم مغزى كلامهم، يجب أن ننظر إلى واقعهم. فأول من سال لعابه، واستخدم الدين لتحقيق مطامعه الشخصية، هم الصليبيون، ثم كان الإنجليز، الذين كانوا أول من تنعم بخيرات ليبيا، وأخرجوا كنوزها ونقلوها إلى بلادهم، حتى أصبح الإنجليزي يظن نفسه المختار، أو صاحب القرار في مصير الشعوب. وهذا الاحتلال بقي لسنين طوال، يسرق الأراضي وينهبها حتى لم يترك شيئاً سوى الفتات لأصحابها الحقيقيين. وقد كانت إنجلترا وقتها صاحبة الموقف الدولي، قوة عظمى لا تغيب عنها الشمس، لكن سنة الله في التغيير شاءت أن يتبدل حالها إلى أن تصبح عجوزاً شمطاء.
بعدها خرجت أمريكا من عزلتها بعد الحرب العالمية الثانية، ساعية وراء ما تملك هذه العجوز التي تحتضر، ولم يكن سعيها للحصول على جزء من الثروات، بل على كل ما تستطيع الحصول عليه، مهما كلف الأمر. فجابت أمريكا بعتادها وجيشها إلى ما خلف المحيطات تطلب أملاك العجوز، وأصبحت تنافسها في كل بلد، مستخدمة كل الوسائل المتاحة. ومن أول الأساليب التي استخدمتها الأموال، فقامت بشراء الذمم في كل أرجاء الأرض، وهذا الأسلوب ليس أسلوباً إنجليزياً، فالإنجليز يفضلون صناعة العملاء على شرائهم. وقد نجح أسلوب أمريكا في البداية، ولكن كان يتحتم عليها التجديد والتبديل باستمرار بسبب الحرفية الموجودة عند الإنجليز وخبرتهم في السيطرة والاحتلال. ففي ليبيا كانت بريطانيا قد صنعت العملاء وربطتهم بها برباط كاثوليكي كما يصفونه، فكان من الصعوبة بمكان أن تنافس أمريكا من رضع العمالة والخيانة لأمته لصالح بريطانيا.
لكنه لم يكن سهلاً على أمريكا، صاحبة القوة العظمى، أن ترى ليبيا، الكنز العظيم الذي يطفو على آبار النفط، ليست تحت يديها، وإنما تحت نفوذ العجوز بريطانيا، فسارعت باستخدام أسلوب آخر غير القوة، وهو دفع أهل البلد إلى الاقتتال فيما بينهم، حتى تأتي هي كالمنقذ رافعة شعار السلام، فتتدخل في شئونها.
وليس هذا فحسب، بل إن لدى أمريكا أوراقاً أخرى كثيرة، بحيث إذا لم ينجح أسلوب استبدلت به آخر. فما أن فشل أسلوب النزاع الداخلي والاقتتال حتى استبدلت به عملاء أخذوا على عاتقهم التلويح بفزاعة القرن العشرين (الإرهاب)، فتقف هي من خلف الستار تتحكم في الدمى، لكن دورها بذلك يكون ضعيفاً لولا إخلاص العملاء، ولو كانت الدولة ضعيفة ومريضة كأوروبا، لكان دورها أكثر ضعفاً.
وها نحن الآن نرى بكل وضوح الصراع بين الإنجليز والأمريكان في ليبيا، وكيف أن الكفة لم ترجح لأحد منهما لأسباب كثيرة، منها عراقة الإنجليز وعملائهم وقوتهم على الأرض، في حين أن عملاء أمريكا جدد اشترتهم بالمال. فيتضح أن الصراع على أوجه بين العملاء في ليبيا يجري على حساب دماء شعبها.
إنّ الأمر في ليبيا سيبقى على ما هو عليه، وسيستمر الصراع بين محتل عريق ومحتل قوي جديد، وذلك حتى يعي الشعب الليبي على ما يحاك ضده، وعلى حقيقة الصراع الذي بينهم، والذي يخدم مصلحة الكافر. عندئذٍ يعود الحق لأصحابه، للأمة الوارثة لما أنعم الله عليها به. وهذا لن يكون إلا بالعودة إلى الخالق الباري، وتنفيذ أمره سبحانه وتعالى، وتطبيق شرعه، فنعيش كما أراد الله لنا أن نعيش.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. ماهر صالح – أمريكا