كتاب إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي ح49
من العمل المضاربة
الحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ لِلنَّاسِ أحكَامَ الرَّشَاد, وَحَذَّرَهُم سُبُلَ الفَسَاد, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيرِ هَاد, المَبعُوثِ رَحمَةً لِلعِبَاد, الَّذِي جَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ الجِهَادِ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَطهَارِ الأمجَاد, الَّذِينَ طبَّقُوا نِظَامَ الِإسلامِ فِي الحُكْمِ وَالاجتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقتِصَاد, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ يَومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَومَ التَّنَاد, يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العِبَادِ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا إِروَاءُ الصَّادِي مِنْ نَمِيرِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي, وَمَعَ الحَلْقَةِ التَّاسِعَةِ وَالأربَعِينَ, وَعُنوَانُهَا: “مِنَ العَمَلِ المضَارَبَةُ”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي كِتَابِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي فِي الإِسلامِ (صَفحَة 82) لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
“المُضَارَبَةُ هِيَ أنْ يَشتَرِكَ اثنَانِ فِي تِجَارَةٍ، وَيَكُونَ المَالُ مِنْ أحَدِهِمَا وَالعَمَلُ مِنَ الآخَرِ، أي أنْ يَشتَرِكَ بَدَنٌ مِنْ شَخْصٍ وَمَالٌ مِنْ آخَرَ، فَيَكُونُ مِنْ أحَدِهِمَا العَمَلُ، وَالمَالُ مِنَ الآخَرِ. وَأنْ يَتَّفِقَا عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيِّنٍ مِنَ الرِّبحِ، كَثُلُثِ الرِّبحِ أو نِصفِهِ، مِثلُ أنْ يُخرِجَ أحَدُهُمَا ألفًا، وَيَعمَلُ فِيهِ الآخَرُ، وَالرِّبحُ بَينَهُمَا.
وَلا بُدَّ مِنْ تَسلِيمِ المَالِ إِلَى العَامِلِ، وَأنْ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَينَ المَالِ؛ لأنَّ المُضَارَبَةَ تَقتَضِي تَسلِيمَ المَالِ لِلمُضَارِبِ. وَلِلعَامِلِ أنْ يَشتَرِطَ عَلَى رَبِّ المَالِ ثُلُثَ الرِّبحِ، أو نِصْفَهُ، أو مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيهِ، بَعدَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُومًا جُزءًا مِنْ أجْزَاءَ، وَلأنَّ استِحْقَاقَ المُضَارِبِ الرِّبحَ بِعَمَلِهِ، فجَازَ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيهِ مِنْ قَلِيلٍ أو كَثِيرٍ كَالأُجرَةِ فِي الإِجَارَةِ، وَكَالجُزْءِ مِنَ الثَّمَرَةِ فِي المُسَاقَاةِ. فَالمُضَارَبَةُ نَوعٌ مِنْ أنوَاعِ العَمَلِ الَّذِي يَكُونُ سَبَباً لِلْمِلْكِ شَرْعًا، فَيَملِكُ المُضَارِبُ المَالَ الَّذِي رَبِحَهُ مِنَ المُضَارَبَةِ بِعَمَلِهِ، حَسَبَ مَا اتَّفَقَا عَلَيهِ.
وَالمُضَارَبَةُ نَوعٌ مِنْ أنوَاعِ الشَّرِكَةِ, لأنَّهَا شَرِكَةُ بَدَنٍ وَمَالٍ، وَالشَّرِكَةُ مِنَ المُعَامَلاتِ الَّتِي نَصَّ الشَّرعُ عَلَى جَوَازِهَا، فَعَنْ أبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ: أنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَينِ، مَا لَمْ يَخُنْ أحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَينِهِمَا» رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الدَّارقُطنِيُّ: «يَدُ اللهِ عَلَى الشَّرِيكَينِ، مَا لَمْ يَخُنْ أحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَ أحَدُهُمَا صَاحِبَهُ رَفَعَهَا عَنْهُمَا».
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ قَالَ: كَانَ العَبَّاسُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ، إِذَا دَفَعَ مَالاً مُضَارَبةً، اشتَرَطَ عَلَى صَاحِبِهِ أنْ لا يَسلُكَ بِهِ بَحْرًا، وَلا يَنْزِلَ بِهِ وَادِيًا، وَلا يَشتَرِي بِهِ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ ضَامِنٌ، فَرَفَعَ شَرطَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَأجَازَهُ. وَأجْمَعَ الصَّحَابَةُ رِضوَانُ اللهِ عَلَيهِمْ عَلَى جَوَازِ المُضَارَبَةِ. وَقَدْ دَفَعَ عُمَرُ مَالَ يَتِيمٍ مُضَارَبَةً كَمَا وَرَدَ فِي مُصَنَّفِ ابنِ أبِي شَيبَةَ، وَقَدْ دَفَعَ عُثمَانُ إِلَى رَجُلٍ مَالاً مُضَارَبَةً. وَفِي المُضَارَبَةِ يُنشِئُ المُضَارِبُ مِلْكًا لَهُ بِعَمَلِهِ فِي مَالِ غَيرِهِ، فَالمُضَارَبَةُ مِنْ قِبَلِ المُضَاربِ عَمَلٌ، وَسَبَبٌ مِنْ أسبَابِ التَّمَلُّكِ، وَلَكِنَّهَا بِالنِّسبَةِ لِصَاحِبِ المَالِ لَيسَتْ سَبَبًا مِنْ أسبَابِ التَّمَلُّكِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبَبٌ مِنْ أسبَابِ تَنمِيَةِ المُلْكِ.
ونَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: قَد مَرَرْت أنَا شَخصِيًّا بِتَجرِبَةٍ المُضَارَبَة هَذِهِ, فَقَد كَانَ لِيَ شَرِيكٌ فِي مَحٍّل تِجَارِيٍّ, شَارَكْتُهُ لِعِلْمِهِ كَي أتَعَلَّمَ مِنهُ, وَقَد حَصَلَ هَذَا بِالفِعْلِ, فَنَهَلْتُ مِنْ عِلْمِهِ الشَّيءَ الكَثِيرَ, دَفَعَ هُوَ نِصْفَ المَالِ وَدَفَعْتُ النِّصْفَ الآخَرَ, وَكَانَ الجُهْدُ مِنِّي, وَمِنهُ الإِدَارَةُ فَقَط, وَكَانَ الرِّبحُ مُنَاصَفَةً, وَبَعْدَ سَنَوَاتٍ حَصَلَ خِلافٌ بَينِي وَبَينَهُ, فَخَطَّطَ شَريكِي لِفَسخِ الشَّرَاكَةِ وَلِلخُرُوجِ بِأكْبَرِ الغَنَائِمِ مُستَخدِمًا فِي ذَلِكَ ذَكَاءَهُ وَدَهَاءَهُ!
وَصَار شَريكِي يُرَوِّجُ الشَّائِعَاتِ بِأنَّ هَذَا المَحَلَّ ثَمِينٌ, إِلَى حِينِ أتت سَاعَةُ المُفَاصَلَةِ فَاضطَّرَّنِي إِلَى دَفْعِ مَبلَغٍ أكْبَرَ مِنْ ثَمَنِهِ الحَقِيقِيِّ, فَلَجَأتُ إِلَى أحَدِ أصدِقَائِي المُقتَدِرِينَ لاقتِرَاضِ مَبلَغٍ مِنَ المَالِ كَي أُنهِيَ الشَّرَاكَةَ الأُولَى, فَوَافَقَ لَكِنَّهُ استَشَارَ أُمَّهُ فَقَالَتْ لَهُ: اعرِضْ عَلَيهِ أنْ تَكُونَ مَعَهُ شَرِيكًا مُضَارِبًا مِنكَ المَالُ وَمِنهُ الجُهْدُ, وَاشتَرَطَ أنْ يَكُونَ لَهُ ثُلُثُ الرِّبحِ, وَتَحتَ ضَغْطِ شَرِيكِي الأوَّلِ, رَحِمَهُ اللهُ, اضطُرِرْتُ لِلمُوَافَقَةِ, وَهَكَذَا كُنتُ مَغبُونًا فِي الحَالَتَينِ, لَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَوِّضُ المَغلُوبَ البَرَكَةَ كَمَا يَقُولُونَ, فَعَوَّضَنِي اللهُ خَيرًا مِمَّا أُخِذَ مِنِّي, وَاللهُ المُوَفِّقُ.
وَقَبلَ أَنْ نُوَدِّعَكُمْ مُستَمِعِينَا الكِرَامَ نُذَكِّرُكُمْ بِأَبرَزِ الأفكَارِ التِي تَنَاوَلهَا مَوضُوعُنَا لِهَذَا اليَومِ:
1. المُضَارَبَةُ هِيَ أنْ يَشتَرِكَ اثنَانِ فِي تِجَارَةٍ، وَيَكُونَ المَالُ مِنْ أحَدِهِمَا وَالعَمَلُ مِنَ الآخَرِ.
2. الشُّرُوطُ الشَّرعِيَّةُ لِعَقْدِ لمُضَارَبَةِ:
أ- أنْ يَشتَرِكَ بَدَنٌ مِنْ شَخْصٍ وَمَالٌ مِنْ آخَرَ، فَيَكُونُ مِنْ أحَدِهِمَا العَمَلُ، وَالمَالُ مِنَ الآخَرِ.
ب- أنْ يَتَّفِقَا عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيِّنٍ مِنَ الرِّبحِ، كَثُلُثِ الرِّبحِ أو نِصفِهِ.
ت- لا بُدَّ مِنْ تَسلِيمِ المَالِ إِلَى العَامِلِ؛ لأنَّ المُضَارَبَةَ تَقتَضِي تَسلِيمَ المَالِ لِلمُضَارِبِ.
ث- لا بُدَّ أنْ يُخَلَّى بَيْنَ العَامِلِ وَبَينَ المَالِ؛ كَي يَتَمَكَّنَ العَامِلُ مِنْ مُبَاشَرَةِ عَمَلِه.
ج- لِلعَامِلِ أنْ يَشتَرِطَ عَلَى رَبِّ المَالِ ثُلُثَ الرِّبحِ، أو نِصْفَهُ، أو مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيهِ.
ح- أنْ يَكُونَ الرِّبحُ مَعْلُومًا وَمُحَدَّدًا, جُزءًا مِنْ أجْزَاءَ الرِّبحِ الكُلِّيِّ.
خ- اتِّفَاقُ المُضَارَبَةِ كَالأُجرَةِ فِي الإِجَارَةِ، وَكَالجُزْءِ مِنَ الثَّمَرَةِ فِي المُسَاقَاةِ.
3. المُضَارَبَةُ نَوعٌ مِنْ أنوَاعِ الشَّرِكَةِ؛ لأنَّهَا شَرِكَةُ بَدَنٍ وَمَالٍ.
4. الشَّرِكَةُ مِنَ المُعَامَلاتِ الَّتِي نَصَّ الشَّرعُ عَلَى جَوَازِهَا قَالَ عَلَيهِ الصلاة والسَّلامُ: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ: أنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَينِ، مَا لَمْ يَخُنْ أحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَينِهِمَا».
5. المُضَارَبَةُ نَوعٌ مِنْ أنوَاعِ العَمَلِ الَّذِي يَكُونُ سَبَباً لِلْمِلْكِ شَرْعًا:
أ- المُضَارَبَةُ مِنْ قِبَلِ المُضَاربِ عَمَلٌ، وَسَبَبٌ مِنْ أسبَابِ التَّمَلُّكِ.
ب- المُضَارَبَةُ لِصَاحِبِ المَالِ لَيسَتْ سَبَبًا مِنْ أسبَابِ التَّمَلُّكِ, بَلْ هِيَ سَبَبٌ مِنْ أسبَابِ تَنمِيَةِ المُلْكِ.
6. أجْمَعَ الصَّحَابَةُ رِضوَانُ اللهِ عَلَيهِمْ عَلَى جَوَازِ المُضَارَبَةِ, وَمِنْ تَطبِيقَاتِهِمْ لَهَا:
أ- دَفَعَ عُمَرُ مَالَ يَتِيمٍ مُضَارَبَةً.
ب- دَفَعَ عُثمَانُ إِلَى رَجُلٍ مَالاً مُضَارَبَةً.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الَمولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ على منهاج النبوة في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.
محمد النادي