نفحات إيمانية- غزوة بدر الكبرى – أبو إبراهيم
الحمد لله الذي فـتح أبواب الجـنـان لعباده الصائمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسـلين، المبعوث رحمة للعالمين، وآله وصحبه الطيـبين الطـاهرين، ومن تبـعه وسار على دربه واهتدى بهديه واستـن بسنــته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أمـا بعد:
قـال الله تـعالى في محكـم كتابـه وهو أصدق القائلين: (ولقـد نـصركـم الله بـبدر وأنتـم أذلـة فاتقـوا الله لعلـكـم تشكـرون).
إن من أعظم ذكريات هذه الأمة المباركة، التي حدثت في شهر رمضان المبارك، ذكرى غزوة بدر الكـبرى، التي وقعت في اليوم السابع عشـر منه، وذلك من السنة الثانية للهجرة وقد أبلى فيها المسلمون بلاء حسنا فنصرهم الله عز وجل على أعدائهم من المشركين نصرا مؤزرا، على الرغم من أنـهم كانـوا أقل عددا وعدة من المشركين، ولم يأخـذوا للــقاء أهبـتـه وعدتـه.
ففي شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قافلة تجارية لقريش بقيادة أبي سفيان ابن حرب عائدة من الشام إلى مكة، فيها أموال لقريش، وتجارة من تجاراتهم عليها ثلاثون رجلا من قريش. فندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لاعتراض هذه القافلة وقال لهم: “هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها”. فخف بعض الناس، وثـقـل بعضهم، وذلك أنـهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا ، فكان مجموع من خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا.
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان، حتى أصاب خبرا أن محمدا وأصحابه قد خرجوا للاستيلاء على القافلة، فغير طريقه المعتاد، وأرسل إلى قريش من يستنفرهم للدفاع عن أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لتجارتهم وأموالهم. وبعد أن نجت القافلة طلب أبو سفيان من أبي جهل الرجوع، فقال أبو جهل: (( والله لا نرجع حتى نـرد بدرا، فنقيم فيها ثلاثا ، ننحر الجزور ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا!)). فوافـوها فسقـوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح بدل القيان!
فخرجت قريش بألف رجل مجهزين بالأسلحة، معهم مائة فرس، وسبعمائة بعير، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يعرف شيئا مما فعله المشركون، وكان خروجه للعير بثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فقط ، حتى إذا قرب من ماء بدر بث العيون والأرصاد لمعرفة أخبار القافلة. فعلم أن قريشا خرجت بهذا الجيش الضخم، وأنها في طريقها إلى ماء بدر.
فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في قتال المشركين بعد أن أخبرهم بما علمه من أخبارهم. فتكلم عدد من الصحابة وأحسنوا القول، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، والمقداد بن الأسود رضي الله عنه الذي قال: (( امض يا رسول الله لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنـا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنـا معكما مقاتلون، فوالذي بعثـك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجاهدنا معك من دونه حتى تبلغه)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أخذ رأي الأنصار في هذه الموقعة لسببين: لأن أكثر من كان معه منهم. ولأنهم عاهدوه على أن ينصروه ويمنعوه من أعدائه في المدينة، ولم يبايعـوه على القتال خارجها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أشيروا علي أيها الناس” فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: (( والله لكأنـك تريدنا يا رسول الله)). فقال: “نعم”. قال سعد رضي الله عنه: (( قد آمنا بك وصدقـناك، وشهدنا على أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله، فو الذي بعثـك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلـف منـا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنـا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعـل الله يريك منـا ما تقر به عينـك، فسر على بركة الله)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله إنـي لكأني أنظـر إلى مصارع القوم”.
ولكن هذا الرأي ـ رأي سعد في الخروج إلى القتال ـ لم يكن رأي جميع الذين خرجوا من المدينة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كره بعضهم القتال وذلك لأربعة أسباب: لأنـهم لم يستعدوا له. ولأنه كان بين الفريقين تفاوت كبير في العدد والعدة. ولأن القتال لم يكن مفروضا بعد. ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر له أن هناك قافلة، ولم يذكر لهم أن هناك جيشا، لذلك لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا.
غير أن هؤلاء الذين كرهوا القتال ما لبثوا أن شرح الله صدورهم له، مستجيبين لأمر الله والرسول. قال تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. وإن فريقا من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبين. كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون).
مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبق قريشا إلى ماء بدر، وقد أنعم الله تعالى على المؤمنين في بدر بنعم عظيمة وهذه النعم هي:
أولا: نعمة المطر: فقد منع قريشا من السبق إلى ماء بدر مطر عظيم عوقها عن المسير، بينما كان هذا المطر في صالح المسلمين إذ لبـد لهم رمل الوادي وأعانهم على المسير عليها، كما استفاد المسلمون كذلك من هذا المطر ما يتطهرون به بالغسل والوضوء، وما ينشطهم للقتال ويطرد عنهم رجز الشيطان ووسوسته التي يمكن أن ينفذ بها إلى نفوسهم. قال تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به، ويذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم، ويثبت به الأقدام).
ثانيا: نعمة الإمداد بالملائكة: فلقد أنزل الله تعالى ملائكـته لتثبت المؤمنين في المعركة، ولتطمئن قلوبهم، ولتشعـرهم بأن الله معهم، وما عليهم إلا أن يبذلوا جهدهم ويعدوا عدتهم غير مقصرين في اتخاذ أسباب القوة. قال تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين).
ثالثا: نعمة النعاس: فقد امتن الله على المؤمنين بالنوم، إذ غشيهم النـعاس جميعا في هذه الليلة التي في صبيحتها سيخوضون معركة حياة أو موت مع عدو أكثر عددا وأقوى عـدة. وقد كان هذا النعاس معجزة كبرى للنبي صلى الله عليه وسلم لأنـه قد شمل جميع أفراد الجيش الإسلامي فناموا كلهم في وقت واحد، وأفاقوا في وقت واحد، قال تعالى: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه).
إخــوة الإيمـان:
رابعا: نعمة إلقاء الرعب في قلوب الأعداء: فقد امتن سبحانه على المؤمنين في بدر بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم الكافرين، قال تعالى: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان).
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة. وهنا قام الحباب بن المنذر رضي الله عنه بصفته خبيرا عسكريا، وقال: (( يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟)). قال: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة” قال: (( يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ونغور ما وراءه من القـلـب، ثم نبني عليه حوضا، فنملأه ماء فنشرب ولا يشربون)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد أشرت بالرأي”! وقضى المسلمون ليلا هادئ الأنفاس، منير الآفاق، غمرت الثقة قلوبهم، وأخذوا من الراحة قسطهم.
خامسا: نعمة النصر على الأعداء: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد الرجال، وينظـم الصفوف، ويسدي النـصائح، ويذكـر بالله والدار الآخرة، ثم يعود إلى عـريش هيـئ له، فيستغرق في الدعاء الخاشع، ويستغيث بالرحمن، ووقف أبو بكر رضي الله عنه إلى جوار الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يكثر الابتهال والتضرع ويقول فيما يدعو به: “اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك”. وجعل أبو بكر رضي الله عنه يلتزمه من ورائه، ويسوي عليه رداءه، ويقول مشفـقا عليه من كثرة الابتهال: ((يا رسول الله بعض مناشدتك ربـك، فإنـه سينجز لك ما وعدك)).
لقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه واثـقا من نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم لأن وعد الله حق، والله سبحانه لا يخلف الميعاد، ولأن الله سبحانه وتعالى كان قد وعد رسوله بإحدى الطائفتين: أن يعطيه القافلة، أو أن ينصره على أعدائه الكافرين، وما دامت القافلة قد نجت وأفلتت من قبضة المسلمين، فلم يبق إلا النـصر الذي سيتحقق لا محالة.
وتزاحف الجمعان، وبدأت المعركة أولا بمبارزة بين رجال من الفريقين، كان النصر فيها للمسلمين، ثم نشبت المعركة وحمي الوطيس، وفي ذروة المعركة كان المسلمون قد استنفدوا جهد أعدائهم، وألحقوا بهم خسائر جسيمة، وأثناء ذلك خفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة في العريش رأى فيها جبريل والملائكة مقبلين، قال: “أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع”.
وما هي إلا أن ضعفت صفوف المشركين تحت مطارق هذا الإيمان، وحلـت بالمشركين هزيمة نكراء، فقتل منهم سبعون، وأسر سبعون، ووضع المسلمون أيديهم يأسرون، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحا السيف في نفر من الأنصار، يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرة العدو.
إخــوة الإيمـان:
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله: “والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم” قال: ((أجل يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال)).
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بما في المعسكر مما جمع الناس من الغنائم فجمع، فاختـلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: ((هو لنا)). وقال الذين كانوا يقاتلون العدو يطلبونه: (( والله لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم)). وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( والله ما أنتم أحق به منـا، لقد رأينا المتاع حين لم يكن دونه ما يمنعه، ولكنـا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو فقمنا نحرسه، فما أنتم بأحق به منـا)). قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (( فينا أصحاب بدر نزلت سورة الأنفال حين اختلفنا في النفـل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين على السواء)).
أما الأسرى فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم فيهم مبدأ الفداء بالمال، أو بتعليم صبيان المسلمين من أهل المدينة القراءة والكتابة، ومن على بعضهم بإطلاق سراحهم بعد أن وعدوه ألا يحاربوا المسلمين بعد ذلك.
وختامـــا:
إخوة الإيمان نسأل الله عز وجل، في هذا اليوم المبارك من أيام شهر رمضان الفضيل، أن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة، وأن يجعلنا من جنودها الأوفياء المخلصين. إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكـم ورحمة الله تعالى وبركاته.