شتان بين صنع الخالق وصنع البشر
\n
لقد كان الناس منذ بداية الحضارات الإنسانية يعيشون في أشكال متعددة من التجمعات منتشرة على بقاع الأرض، وكانت تجمعهم عوامل وأسس مختلفة، كعامل العرق أو اللون، أو على أساس التوافق الشكلي، أو الروحي، أو الفكري. ومع التقدم الزمني، تطور العلم، وتطور الفكر، وتطورت الأسس التي يجتمع عليها الناس.
\n
فبالنظر إلى الحضارات المتعددة التي مرت على البشرية نرى فيها خصائص تجعلها تختلف عن بعضها البعض، ولكنها تظل تشترك في أن الفكر هو أساس الحضارة، والمبدأ الذي تتبنّاه وتسير عليه هو ما يبقيها على قيد الحياة، ويحدد عمرها. وبالنظر إلى أن الفكر هو أساس الحضارة نجد أن الفكر لا يخرج من أن يكون من الإنسان نفسه، بجده واجتهاده، أو من خالق الإنسان، يؤتيه الله الإنسان بقدر ما يحتاج في هذه الحياة ليبقى على قيد الحياة، ويعيش كما يريد الله له.
وقبل البحث في الحضارة، يجب أن نتطرق إلى الحاجة إلى الحضارة. إن الحاجة إلى الحضارة هي من مدعاة التجمع والاجتماع البشري، فالبشر يحتاجون إلى أفكار يتجمعون عليها ويتعارفون عليها ويتحاكمون بها.
\n
وبما أن تعريف المجتمع هو مجمل من أفكار وأحكام عامة على الأمور المشتركة بين البشر يجرون التفاعل بينهم بموجبها، ومشاعر مشتركة تتوحد لديهم، ونظام ينظم علاقاتهم اليومية بما فيها من الاحتياجات الخاصة والعامة على بقعة الأرض التي تجمعهم، فمن الطبيعي أن يكون هناك مقياس ثابت يكون هو مصدر هذه الأفكار والمشاعر والنظام التي يشتركون فيها، وهو ما يطلق عليه \”مبدأ\”.
\n
والمبدأ إما أن يكون مصدره البشر أو رب البشر، فإن كان من البشر، فمن الطبيعي أن يسعى منتجوه لإبقائه متداولًا بين المتعاملين به، وحتى يبقى متداولًا بين أصحابه ومن يطبق حيثياته من أفكار ومشاعر وأنظمة يجب أن تكون هناك فائدة تُرجى منه، ولهذا كان المبدأ الذي مصدره البشر قابلًا للتطور. والبشر يسعون بالطبيعة لتطبيق المبدأ الذي يحقق لهم فائدة، ورغبة ذاتية، والسعادة بغض النظر عن ماهيته. وعند تطبيقه يتبين لنا نتائجه، والتطور المدني أو تخلفه.
\n
ولو نظرنا إلى ما يمكن أن ينتجه البشر لاستطعنا القول أن البشر مهما سمى تفكيرهم وارتقى فلن يتمكن من الاتساع، ولا إنتاج فكر شمولي يلبي حاجات البشر المتعددة؛ لأن البشر جزء من كل شيء، ولا يستطيعون النظر إلى الأمور ككل مع أنهم يستطيعون النظر إليها بمجملها وبما يقع عليه حسهم. والمسلم يعلم أن الإنسان غير كامل وسيظل ناقصًا في كل شيء حتى في فكره، فكيف له أن ينتج مبدأ شاملًا، ينظم حياة البشر وعلاقاتهم، ويضمن حاجاتهم كلهم بتنوعهم واختلافهم؟ وكيف له أن يبدع نظامًا متناغمًا في جميع جوانبه الفكرية والمشاعرية، وحتى الكونية؟!
\n
إنّ خالق البشر من لا شيء، والعالم بخصائصهم وحاجاتهم، يعلم كيف يوجد التناغم بينهم، ويعلم كيف يوجد الاستقرار الفكري والإشباع المادي والروحي لديهم، ويعلم النظام الذي يسير عليه طبيعة مخلوقاته، فهو العالم بكل شيء. والأمر الآخر هو أن الغاية من الخلق لا يعلمها إلا هو لأنه هو الخالق، فيعلم كيف يمكن أن يمكّن البشر من السير إلى الغاية التي من أجلها أوجدهم، على النقيض من البشر الذين تُخيل لهم الغاية التي خلقوا من أجلها. لهذا فإن التمييز سهل بين صنع البشر وصنع الخالق الباري، فهو فرق بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، بين الأبيض والأسود.
\n
فهل من أحد يدرك أنه إرث عظيم منّ الله به علينا بأن أوحى إلى رسوله كيف يمكن أن يسود العالمَ العدلُ والإنصاف، وتتحقق السعادة والهناءة للبشرية كلها؟
\n
\n
\n
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. ماهر صالح – أمريكا
\n
\n