إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي (ح 127)
الاحتكار
الحمد لله الذي شرع للناس أحكام الرشاد, وحذرهم سبل الفساد, والصلاة والسلام على خير هاد, المبعوث رحمة للعباد, الذي جاهد في الله حق الجهاد, وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد, الذين طبقوا نظام الإسلام في الحكم والاجتماع والسياسة والاقتصاد, فاجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد, يوم يقوم الناس لرب العباد.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: نتابع معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي, ومع الحلقة السابعة والعشرين بعد المائة, وعنوانها: “الاحتكار”. نتأمل فيها ما جاء في الصفحة السابعة والتسعين بعد المائة من كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للعالم والمفكر السياسي الشيخ تقي الدين النبهاني.
يقول رحمه الله: “ويمنع الاحتكار مطلقا، وهو حرام شرعا، لورود النهي الجازم عنه في صريح الحديث. فقد روي في صحيح مسلم عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله العدوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يحتكر إلا خاطئ” وروى القاسم عن أبي أمامة قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطعام”. أخرجه الحاكم في المستدرك, وابن أبي شيبة في مصنفه. وروى مسلم بإسناده عن سعيد بن المسيب أن معمرا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من احتكر فهو خاطئ” فالنهي في الحديث يفيد طلب الترك، وذم المحتكر، بوصفه أنه خاطئ – والخاطئ المذنب العاصي- وهذا قرينة تدل على أن هذا الطلب للترك يفيد الجزم، ومن هنا دلت الأحاديث على حرمة الاحتكار. والمحتكر هو من يجمع السلع انتظارا لغلائها، حتى يبيعها بأسعار غالية، بحيث يضيق على أهل البلد شراؤها. أما كون المحتكر هو من يجمع السلع انتظارا للغلاء، فلأن معنى كلمة حكر في اللغة استبد، ومنه الاستبداد بحبس البضاعة كي تباع بالكثير، واحتكر الشيء في اللغة جمعه واحتبسه انتظارا لغلائه، فيبيعه بالكثير.
وأما كون شرط انطباق الاحتكار، كونه يبلغ حدا يضيق على أهل البلد شراء السلعة المحتكرة؛ فلأن واقع الاحتكار لا يحصل إلا في هذه الحال، فلو لم يضق على الناس شراء السلعة لا يحصل جمع البضاعة، ولا الاستبداد بها كي تباع بالكثير. وعلى هذا فليس شرط الاحتكار أن يشتري السلعة، بل مجرد جمعها انتظارا للغلاء، حتى بيعها بالكثير يعتبر احتكارا، سواء جمعها بالشراء، أم جمعها من غلة أراضيه الواسعة لانفراده بهذا النوع من الغلة، أو لندرة زراعتها، أو جمعها من مصانعه لانفراده بهذه الصناعة، أو لندرة هذه الصناعة، كما هي حال الاحتكارات الرأسمالية. فإنهم يحتكرون صناعة شيء، بقتل جميع المصانع إلا صناعتهم، ثم يتحكمون في السوق، فإن ذلك كله احتكار لأنه يصدق عليه منطوق كلمة احتكر ويحتكر لغة، فالحكرة والاحتكار هو حصر السلعة، أو السلع عن البيع انتظارا لغلائها، فيبيعها بالكثير.
والاحتكار حرام في جميع الأشياء من غير فرق بين قوت الآدمي، أو قوت الدواب وغيره، ومن غير فرق بين الطعام وغيره، ومن غير فرق بين ما هو من ضرورات الناس، أو من كمالياتهم، وذلك لأن معنى احتكر في اللغة جمع الشيء مطلقا، ولم تأت بمعنى جمع الطعام، أو القوت، أو ضرورات الناس، بل جمع الشيء، فلا يصح أن تخصص بغير معناها اللغوي، ولأن ظاهر الأحاديث الصحيحة، التي وردت في الاحتكار، يدل على تحريم الاحتكار في كل شيء، وذلك لأن الأحاديث جاءت عامة من غير تخصيص، فتبقى على عمومها. وأما ما ورد في بعض الروايات لأحاديث الاحتكار، من تسليط الاحتكار على الطعام كحديث: “نهى رسول الله أن يحتكر الطعام” وغير ذلك من الروايات، فإن ذكر الطعام في الحديث لا يجعل الاحتكار خاصا بالطعام، ولا يقال في ذلك: “إن النهي عن الاحتكار ورد في بعض الروايات عاما، وبعض الروايات خاصا بالطعام، فيحمل العام على الخاص”. لا يقال ذلك، لأن كلمة الطعام في الروايات التي ذكرتها لا تصلح لتخصيص الروايات العامة، بل هو من التنصيص على فرد من الأفراد التي يطلق عليها العام.
أما لماذا لا تصلح أحاديث الطعام للتخصيص فلأن المخصص يجب أن يكون جزءا من العام، أي أن يكون الطعام جزءا من عموم أحاديث الاحتكار, ولكن بالنظر في أحاديث الاحتكار يتبين أنها تفيد العموم في كل من يحتكر أي في المحتكرين. فحديث مسلم: “لا يحتكر إلا خاطئ” هو فعل منفي, فيفيد العموم في المحتكرين.
ورواية مسلم الأخرى: “من احتكر فهو خاطئ”. فهي كذلك تفيد العموم في كل محتكر, وكلمة الطعام وهي مادة محتكرة لا تخصص عموم المحتكرين؛ لأنها ليست جزءا منهم. وقد يقال: “إن حديثي مسلم المذكورين أعلاه: “لا يحتكر إلا خاطئ” و “من احتكر فهو خاطئ”. وإن كانا يفيدان في منطوقهما عموم المحتكرين لكن بمفهومهما يفيدان عموم المادة المحتكرة, وعندها يصلح حديث الطعام بمنطوقه لتخصيص مفهوم حديثي مسلم عن المحتكرين”. لا يقال ذلك لأن المنطوق لا يخصص المفهوم.
وعليه فإن الاحتكار محرم في كل شيء فالمحتكر يتحكم في السوق, ويفرض على الناس ما يشاء من أسعار، باحتكاره السلعة عنده، فيضطر الناس لشرائها منه بالثمن الغالي، لعدم وجودها عند غيره. فالمحتكر في حقيقته يريد أن يغلي السعر على المسلمين، وهذا حرام، لما روي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من دخل في شيء من أسعار المسلمين، ليغليه عليهم، كان حقا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة”.
وقبل أن نودعكم مستمعينا الكرام نذكركم بأبرز الأفكار التي تناولها موضوعنا لهذا اليوم:
1. منع الإسلام للاحتكار:
1) يمنع الاحتكار مطلقا، وهو حرام شرعا.
2) ورود النهي الجازم عن الاحتكار في صريح الحديث يفيد طلب الترك.
3) ذم المحتكر بوصفه أنه خاطئ أي مذنب وعاص قرينة تدل على أن الطلب للترك يفيد الجزم.
4) طلب الترك الجازم دل على حرمة الاحتكار.
2. الاحتكار في اللغة:
1) معنى كلمة حكر في اللغة استبد، ومنه الاستبداد بحبس البضاعة كي تباع بالكثير.
2) واحتكر الشيء في اللغة جمعه واحتبسه انتظارا لغلائه، فيبيعه بالكثير.
3. الاحتكار في الاصطلاح:
1) المحتكر هو من يجمع السلع انتظارا لغلائها، حتى يبيعها بأسعار غالية، بحيث يضيق على أهل البلد شراؤها.
2) واقع الاحتكار لا يحصل إلا إذا بلغ حدا يضيق على أهل البلد شراء السلعة.
3) ليس شرط الاحتكار أن يشتري السلعة، بل مجرد جمعها انتظارا للغلاء، حتى بيعها بالكثير يعتبر احتكارا.
4. احتكار الرأسماليين: يجمع المحتكر الرأسمالي السلعة بإحدى الطرق الآتية:
1) بالشراء من السوق.
2) من غلة أراضيه الواسعة لانفراده بهذا النوع من الغلة، أو لندرة زراعتها.
3) من مصانعه لانفراده بهذه الصناعة، أو لندرة هذه الصناعة.
5. تحكم الرأسماليين في السوق:
1) الرأسماليون يحتكرون صناعة شيء، بقتل جميع المصانع إلا صناعتهم.
2) ثم يتحكمون في السوق.
6. الاحتكار محرم في كل شيء: الاحتكار حرام في جميع الأشياء:
1) من غير فرق بين قوت الآدمي، أو قوت الدواب وغيره.
2) ومن غير فرق بين الطعام وغيره.
3) ومن غير فرق بين ما هو من ضرورات الناس، أو من كمالياتهم.
7. رد الشيخ تقي الدين العالم بأصول الفقه على من يقولون بتسليط الاحتكار على الطعام:
1) معنى “احتكر” في اللغة جمع الشيء مطلقا.
2) لم تأت “احتكر” بمعنى جمع الطعام، أو القوت، أو ضرورات الناس، بل جمع الشيء.
3) لا يصح أن تخصص “احتكر” بغير معناها اللغوي.
4) ظاهر الأحاديث الصحيحة الواردة في الاحتكار يدل على تحريم الاحتكار في كل شيء.
5) الأحاديث جاءت عامة من غير تخصيص، فتبقى على عمومها.
6) ذكر الطعام في الحديث لا يجعل الاحتكار خاصا بالطعام.
8. رده رحمه الله على سؤال: لماذا لا يقال: يحمل الخاص على العام في النهي عن احتكار الطعام؟
1) لا يقال: “إن النهي عن الاحتكار ورد في بعض الروايات عاما، وبعض الروايات خاصا بالطعام، فيحمل العام على الخاص”.
2) لا يقال ذلك، لأن كلمة الطعام في الروايات التي ذكرتها لا تصلح لتخصيص الروايات العامة، بل هو من التنصيص على فرد من الأفراد التي يطلق عليها العام.
9. في التصحيحات التي بعث بها العالم الجليل عطاء بن خليل”أبو الرشتة” أمير حزب التحرير حفظه الله وأعزه ونصره يجيب عن سؤال: لماذا لا تصلح أحاديث الطعام للتخصيص؟
1) أما لماذا لا تصلح أحاديث الطعام للتخصيص لأن المخصص يجب أن يكون جزءا من العام، أي أن يكون الطعام جزءا من عموم أحاديث الاحتكار.
2) بالنظر في أحاديث الاحتكار يتبين أنها تفيد العموم في كل من يحتكر أي في المحتكرين. فحديث مسلم: “لا يحتكر إلا خاطئ” هو فعل منفي, فيفيد العموم في المحتكرين.
3) رواية مسلم الأخرى: “من احتكر فهو خاطئ”. فهي كذلك تفيد العموم في كل محتكر.
4) كلمة الطعام وهي مادة محتكرة لا تخصص عموم المحتكرين؛ لأنها ليست جزءا منهم.
5) قد يقال: “إن حديثي مسلم المذكورين أعلاه: “لا يحتكر إلا خاطئ” و “من احتكر فهو خاطئ”. وإن كانا يفيدان في منطوقهما عموم المحتكرين لكن بمفهومهما يفيدان عموم المادة المحتكرة وعندها يصلح حديث الطعام بمنطوقه لتخصيص مفهوم حديثي مسلم عن المحتكرين.
6) لا يقال ذلك لأن المنطوق لا يخصص المفهوم.
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة على منهاج النبوة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. نشكركم على حسن استماعكم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.