إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي (ح 117)
شراء أسهم شركات المساهمة والاشتراك في تأسيسها
الحمد لله الذي شرع للناس أحكام الرشاد، وحذرهم سبل الفساد، والصلاة والسلام على خير هاد، المبعوث رحمة للعباد، الذي جاهد في الله حق الجهاد، وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد، الذين طبقوا نظام الإسلام في الحكم والاجتماع والسياسة والاقتصاد، فاجعلنا اللهم معهم، واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد، يوم يقوم الناس لرب العباد.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: نتابع معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي، ومع الحلقة السابعة عشرة بعد المائة، وعنوانها: “شراء أسهم شركات المساهمة والاشتراك في تأسيسها”. نتأمل فيها ما جاء في الصفحة السادسة والسبعين بعد المائة من كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للعالم والمفكر السياسي الشيخ تقي الدين النبهاني.
يقول رحمه الله: “بقيت مسألة ما وقع فيه المسلمون من شراء أسهم شركات المساهمة، واشتراكهم في تأسيسها، ومن وجود أسهم لهم يملكونها، بحكم مساهمتهم في هذه الشركات. هل كان عملهم هذا حراما عليهم، مع أنهم كانوا يجهلون الحكم الشرعي حين مساهمتهم، أو أفتاهم مشايخ لم يدركوا واقع شركات المساهمة ما هي؟ وهل هذه الأسهم التي تحت تصرفهم ملك لهم، وأموال حلال عليهم، ولو كسبت بمعاملة باطلة شرعا؟ أم حرام عليهم، ولا يملكونها؟ وهل يجوز لهم بيع هذه الأسهم للناس أو لا يجوز؟
والجواب على ذلك هو أن الجهل بالحكم الشرعي ليس عذرا؛ لأنه فرض عين على كل مسلم أن يتعلم ما يلزمه في حياته من الأحكام الشرعية، حتى يتأتى له القيام بالعمل حسب الحكم الشرعي. إلا أنه إذا كان الحكم مما يجهل مثله على مثل الفاعل، فلا يؤاخذ في الفعل، ويكون عمله صحيحا، ولو كان حكم الشرع فيه أنه باطل؛ لأن “الرسول صلى الله عليه وسلم سمع معاوية بن الحكم يشمت عاطسا، وهو في الصلاة، فبعد أن فرغوا من الصلاة علمه الرسول أن الكلام يبطل الصلاة، وتشميت العاطس يبطل الصلاة، ولم يأمره بإعادة الصلاة”. روى هذا المعنى مسلم والنسائي من طريق عطاء بن يسار؛ لأن هذا الحكم وهو كون الكلام يبطل الصلاة، كان مما يجهل عادة لمثل ذلك الشخص، فعذره الرسول فيه، واعتبر صلاته صحيحة.
وشركات المساهمة كونها حراما شرعا، من الأحكام التي يجهل مثلها على كثير من المسلمين، ولذلك يعذر فيها الجهل. فيكون عمل الذين اشتركوا صحيحا، ولو كانت الشركات باطلة. كصلاة معاوية بن الحكم فإنها صلاة صحيحة مع أنه عمل فيها ما يبطل الصلاة، ولكنه كان يجهل أن الكلام يبطل الصلاة. وإفتاء المشايخ أيضا يجري عليه حكم الجهل بالنسبة للمستفتي، أما المفتي فليس معذورا؛ لأنه لم يبذل الوسع في فهم واقع شركات المساهمة قبل أن يعطي الحكم فيها.
وأما ملكية هؤلاء المساهمين للأسهم فهي ملكية صحيحة، وهي أموال حلال لهم ما دام حكم الشرع في عملهم أنه عمل صحيح، وليس بباطل، لجهلهم ببطلانه جهلا يعذرون فيه. وأما بيع هذه الأسهم لمسلمين فلا يجوز؛ لأنها أوراق مالية باطلة شرعا، وحلية ملكيتها جاءت طارئة من كون الجهل يعذر فيها. أما إذا عرف الحكم الشرعي فيها، أو أصبح مما لا يجهل مثله عند الشخص، فإنه حينئذ يكون مالا حراما، لا يباع ولا يشترى، ولا أن يجعل غيره يلي بيعه له.
وكيفية التخلص من هذه الأسهم التي ملكت بسبب جهل الحكم الشرعي فيها تكون بحل الشركة، أو تحويلها إلى شركة إسلامية، أو لينظروا شخصا غير مسلم ممن يستحل أسهم شركات المساهمة فيولوه بيعها عنهم، ويأخذوا ثمنها. فعن سويد بن غفلة: “أن بلالا قال لعمر بن الخطاب: إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوا منهم، ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أنتم من الثمن” رواه أبو عبيد في الأموال.
ولم ينكر أحد على عمر ذلك، مع أنه مما ينكر لو كان يخالف الشرع فكان إجماعا. فالخمر والخنازير مال من أموال أهل الذمة، ولا تكون مالا للمسلمين، فلما أرادوا إعطاءها للمسلمين بدل جزية أمرهم عمر أن لا يقبلوها، وأن يولوهم بيعها، ويأخذوا ثمنها. ولما كانت الأسهم مالا من أموال الرأسماليين الغربيين، ولا تكون مالا للمسلمين، وقد آلت للمسلمين فلا يصح أن يأخذوها، وليولوهم بيعها. فكما أن حق المسلمين في الجزية والخراج قد استقر في الخمر والخنازير، وأباح لهم عمر أن يجعلوا الذميين يلون بيعها لهم، فكذلك حق المسلمين في هذه الأسهم يجوز لهم أن يجعلوا الذميين يلون بيعها لهم”.
وقبل أن نودعكم مستمعينا الكرام نذكركم بأبرز الأفكار التي تناولها موضوعنا لهذا اليوم:
1. يثير الشيخ تقي الدين النبهاني عدة تساؤلات تتعلق بموضوع شراء أسهم شركات المساهمة:
أما التساؤلات فهي:
1) هل يعذر المسلم إذا جهل الحكم الشرعي؟
2) هل شراء أسهم شركات المساهمة، والاشتراك في تأسيسها، وامتلاك أسهمها حرام مع أنهم كانوا يجهلون الحكم الشرعي حين مساهمتهم؟
3) ما الحكم الشرعي في أسهم شركات المساهمة؟ وماذا يترتب على معرفة هذا الحكم؟
4) هل هذه الأسهم التي تحت تصرفهم ملك لهم، وأموال حلال عليهم، ولو كسبت بمعاملة باطلة شرعا؟ أم حرام عليهم، ولا يملكونها؟
5) هل يجوز للمشايخ أن يفتوا الناس دون أن يدركوا واقع شركات المساهمة ما هي؟
6) هل يجوز لهم بيع هذه الأسهم للناس أو لا يجوز؟
2. يتولى الشيخ تقي الدين النبهاني الإجابة عن تلك التساؤلات:
وأما الإجابات فهي:
1) الجهل بالحكم الشرعي ليس عذرا؛ لأنه فرض عين على كل مسلم أن يتعلم ما يلزمه في حياته من الأحكام الشرعية، حتى يتأتى له القيام بالعمل حسب الحكم الشرعي.
2) إذا كان الحكم مما يجهل مثله على مثل الفاعل، فلا يؤاخذ في الفعل، ويكون عمله صحيحا، ولو كان حكم الشرع فيه أنه باطل.
3) الأسهم مال حرام، لا يجوز بيعها ولا شراؤها، ولا التعامل بها. وإذا عرف الحكم الشرعي فيها، أو أصبح مما لا يجهل مثله عند الشخص، فإنه حينئذ يكون مالا حراما، لا يباع ولا يشترى، ولا أن يجعل غيره يلي بيعه له.
4) شركات المساهمة كونها حراما شرعا، من الأحكام التي يجهل مثلها على كثير من المسلمين، ولذلك يعذر فيها الجهل. فيكون عمل الذين اشتركوا صحيحا، ولو كانت الشركات باطلة. وملكية هؤلاء المساهمين للأسهم ملكية صحيحة، وهي أموال حلال لهم ما دام حكم الشرع في عملهم أنه عمل صحيح، وليس بباطل، لجهلهم ببطلانه جهلا يعذرون فيه.
5) إفتاء المشايخ أيضا يجري عليه حكم الجهل بالنسبة للمستفتي، أما المفتي فليس معذورا؛ لأنه لم يبذل الوسع في فهم واقع شركات المساهمة قبل أن يعطي الحكم فيها.
6) بيع هذه الأسهم لمسلمين لا يجوز؛ لأنها أوراق مالية باطلة شرعا، وحلية ملكيتها جاءت طارئة من كون الجهل يعذر فيها.
3. يبين الشيخ تقي الدين النبهاني كيفية التخلص من الأسهم التي ملكت بسبب جهل الحكم الشرعي فيقول: وكيفية التخلص من هذه الأسهم تكون بإحدى الطرق الثلاث الآتية:
1) بحل الشركة.
2) بتحويلها إلى شركة إسلامية.
3) بالبحث عن شخص غير مسلم ممن يستحل أسهم شركات المساهمة فيولوه بيعها عنهم، ويأخذوا ثمنها.
4. يستخدم الشيخ تقي الدين النبهاني القياس الشرعي في مسألة التخلص من الأسهم فيقول: كما أن حق المسلمين في الجزية والخراج قد استقر في الخمر والخنازير، وأباح لهم عمر أن يجعلوا الذميين يلون بيعها لهم، فكذلك حق المسلمين في هذه الأسهم يجوز لهم أن يجعلوا الذميين يلون بيعها لهم\”.
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما، نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام، وأن يعز الإسلام بنا، وأن يكرمنا بنصره، وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة في القريب العاجل، وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. نشكركم على حسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.