مع الحديث الشريف قاضي المظالم
نحييكم جميعا أيها الأحبة في كل مكان، في حلقة جديدة من برنامجكم “مع الحديث الشريف” ونبدأ بخير تحية، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
روى أبو داوود في سننه قال:
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَقَتَادَةُ وَحُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلَا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ:
(غَلَا السِّعْر): أَيْ اِرْتَفَعَ عَلَى مُعْتَاده. (إِنَّ اللَّه هُوَ الْمُسَعِّر): عَلَى وَزْن اِسْم الْفَاعِل مِنْ التَّسْعِير
(الْقَابِض الْبَاسِط) أَيْ مُضَيِّق الرِّزْق وَغَيْره عَلَى مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ كَيْف شَاءَ وَمُوَسِّعه.
وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى تَحْرِيم التَّسْعِير وَأَنَّهُ مَظْلِمَة. وَوَجْهه أَنَّ النَّاس مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالهمْ، وَالتَّسْعِير حَجْر عَلَيْهِمْ، وَالْإِمَام مَأْمُور بِرِعَايَةِ مَصْلَحَة الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ نَظَره فِي مَصْلَحَة الْمُشْتَرِي بِرُخْصِ الثَّمَن أَوْلَى مِنْ نَظَره فِي مَصْلَحَة الْبَائِع بِتَوْفِيرِ الثَّمَن، وَإِذَا تَقَابَلَ الْأَمْرَانِ وَجَبَ تَمْكِين الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الِاجْتِهَاد لِأَنْفُسِهِمْ وَإِلْزَام صَاحِب السِّلْعَة أَنْ يَبِيع بِمَا لَا يَرْضَى بِهِ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُون تِجَارَة عَنْ تَرَاضٍ} وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُور الْعُلَمَاء وَرُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ يَجُوز لِلْإِمَامِ التَّسْعِير، وَأَحَادِيث الْبَاب تَرُدّ عَلَيْهِ. كَذَا فِي النَّيْل.
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَسَن صَحِيح.
جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم التسعير من قبل الحاكم مظلمة، لأن التسعير ليس من حق الحاكم، فإن فعله فقد فعل شيئاً لا حق له به فكان مظلمة للرعية، وكذلك هي كل القضايا التي تحصل في الحقوق العامة التي تنظمها الدولة للناس فقد جعل النظر فيها من المظالم، فإذا وضع نظام إداري لمصلحة من مصالح الناس فرأى أحد الرعايا أن هذا النظام يظلمه فإن قضيته تنظر من المظالم، لأنها تَظَلُّمٌ من نظام إداري لمصلحة من مصالح الناس وضعته الدولة، كأن تضع الدولة نظاماً لسقي الزرع من ماء عام وفق دور بين المزارعين، فإن وجد أحد المزارعين أن هذا النظام يظلمه فله أن يرفع مظلمته للخليفة أو من ينيبه الخليفة عنه من قضاة المظالم لينظر فيها، ويرفع الظلم عن المتظلم إن ثبتت صحة المظلمة.
روى مسلم في صحيحه قال:
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَاخْتَصَمُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا}
ويفهم من هذين الحديثين أن أي مظلمة تحصل على شخص سواء أكانت من الحاكم أم من تنظيمات الدولة وأوامرها تعتبر مظلمة، يرفع أمرها للخليفة أو لمن ينيبه الخليفة عنه في ذلك من قضاة المظالم، ليقضي فيها.
وقاضي المظالم هو قاض ينصب لرفع كل مظلمة تحصل من الدولة على أي شخص يعيش تحت سلطان الدولة سواء أكان من رعاياها أم من غيرهم وسواء أحصلت هذه المظلمة من الخليفة أم ممن هو دونه من الحكام والموظفين.
تعيين قضاة المظالم:
يعين قاضي المظالم من قبل الخليفة أو من قبل قاضي القضاة، ذلك أن المظالم من القضاء فهي إخبار عن الحكم الشرعي على سبيل الإلزام، والقاضي بجميع أنواعه إنما يعينه الخليفة لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يعين القضاة بأنواعهم … لذا فإن قاضي المظالم باعتباره من القضاة يعينه الخليفة، ويجوز أن يعينه قاضي القضاة إذا جعل له الخليفة ذلك في عقد التكليف.
وتشكل محكمة للمظالم في مركز الدولة وعلى رأسها رئيس محكمة المظالم المركزية الذي يكون له صلاحية النظر في عزل الخليفة، كما تشكل محاكم فرعية لها في باقي الولايات.
صلاحيات قضاء المظالم:
تملك محكمة المظالم صلاحية النظر في أية مظلمة من المظالم سواء منها:
المظالم المتعلقة بأشخاص أو جهاز الدولة
المظالم المتعلقة بمخالفة الخليفة لأحكام الشرع
المظالم المتعلقة بمعنى نص من نصوص التشريع في الدستور والقانون وسائر الأحكام الشرعية ضمن تبني الخليفة
المظالم المتعلقة بتظلم الرعية من القوانين الإدارية المتعلقة بمصالحها
المظالم المتعلقة بفرض ضريبة من الضرائب ….. أم غير ذلك
ويجوز أن يقتصر عمل محكمة المظالم مركزية على النظر في المظلمة من الخليفة ووزرائه وقاضي القضاة … وأن تنظر فروعها في الولايات في المظالم من الولاة والعمال وموظفي الدولة الآخرين.
تعيين وعزل قضاة المظالم:
للخليفة أن يعطي محكمة المظالم المركزية صلاحية تعيين وعزل قضاة المظالم في محاكم المظالم في فروع الولايات التابعة لمحكمة المظالم المركزية.
الخليفة هو الذي يعين ويعزل أعضاء محكمة المظالم الرئيسية في المركز.
وأما رئيس محكمة المظالم الذي ينظر في عزل الخليفة فإن عزله في الأصل من صلاحيات الخليفة، إلا في حالة واحدة … وهي أن تكون هناك قضية مرفوعة على الخليفة أو وزرائه أو قاضي قضاته (إذا كان الخليفة قد جعل له صلاحية تعيين وعزل قاضي المظالم) … ذلك أن بقاء صلاحية العزل بيد الخليفة في هذه الحالة يغلب على الظن أنها ستؤدي إلى الحرام، حيث ستؤثر في الحكم وبالتالي تحد من قدرة القاضي على عزل الخليفة أو أعوانه مثلاً وتكون صلاحية العزل هذه وسيلة إلى الحرام، أي أن بقاءها بيد الخليفة في هذه الحالة حرام … وفقاً للقاعدة الشرعية: الوسيلة إلى الحرام حرام
أما باقي الحالات فإن الحكم باق على أصله أي أن صلاحية عزل قاضي المظالم هي للخليفة كتوليته سواء بسواء.
ومن الجدير ذكره أن القضاء في أي مظلمة من المظالم مهما كان موضوعها لا يشترط فيه وجود مدعي ولا استدعاء المدعى عليه وبالتالي لا يشترط أن ينظر فيها في مجلس قضاء … فلمحكمة المظالم حق النظر في المظلمة ولو لم يدع بها أحد، وليست ملزمة باستدعاء المدعى عليه ومن ثم ليست ملزمة بعقد مجلس قضاء …. بل هي تنظر في المظلمة حال حدوثها وتصدر الحكم دون أن يقيدها مكان أو زمان.
وفي الختام فإنه ونظراً إلى مكانة هذه المحكمة من ناحية صلاحياتها … فلا بأس بإحاطتها بمظاهر الهيبة والعظمة ….بأن يجعل لها دار فخمة، فهذا من المباحات لا سيما إذا كان هذا يظهر عظمة العدل. ففي زمن السلاطين في مصر والشام كان مجلس السلطان الذي ينظر فيه في المظالم يسمى دار العدل وكان يقيم فيه نواباً عنه ويحضر فيه القضاة والفقهاء وقد ذكر المقريزي في كتاب (السلوك إلى معرفة الملوك) أن السلطان الملك الصالح أيوب رتَّبَ عنه نواباً بدار العدل يجلسون لإزالة المظالم، ومعهم الشهود والقضاة والفقهاء.
احبتنا الكرام، وإلى حين أن نلقاكم مع حديث نبوي آخر، نترككم في رعاية الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.