إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي
(ح 159)
الربا لا يقع إلا في ستة أشياء فقط
الحمد لله الذي شرع للناس أحكام الرشاد, وحذرهم سبل الفساد, والصلاة والسلام على خير هاد, المبعوث رحمة للعباد, الذي جاهد في الله حق الجهاد, وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد, الذين طبقوا نظام الإسلام في الحكم والاجتماع والسياسة والاقتصاد, فاجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد, يوم يقوم الناس لرب العباد.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: نتابع معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي, ومع الحلقة التاسعة والخمسين بعد المائة, وعنوانها: “الربا لا يقع إلا في ستة أشياء فقط”. نتأمل فيها ما جاء في الصفحة الثامنة والخمسين بعد المائتين من كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للعالم والمفكر السياسي الشيخ تقي الدين النبهاني.
يقول رحمه الله: “الربا هو أخذ مال بمال من جنس واحد متفاضلين. والصرف هو أخذ مال بمال من الذهب والفضة من جنس واحد متماثلين، أو من جنسين مختلفين متماثلين، أو متفاضلين. والصرف لا يكون إلا في البيع، أما الربا فإنه لا يكون إلا في بيع، أو قرض، أو سلم. فأما البيع فهو مبادلة المال بالمال تمليكا وتملكا، وهو جائز، لقوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا). (البقرة 275) ولقوله صلى الله عليه وسلم: “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا”. رواه البخاري من طريق حكيم بن حزام. وأما السلم فهو أن يسلم عرضا حاضرا بعرض موصوف في الذمة إلى أجل. ويسمى سلما وسلفا. وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد به البيع، وبلفظ السلم، وهو جائز، لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه). (البقرة 282) قال ابن عباس: “أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى، أن الله عز وجل قد أحله وأذن فيه، ويتلو هذه الآية: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى)”. ولأنه روى الشيخان عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث فقال: “من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم”. وأما القرض فهو نوع من السلف، وهو أن يعطي مالا لآخر ليسترده منه، وهو جائز. فقد روى مسلم عن أبي رافع: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا، فقال: أعطه إياه إن خيار الناس أحسنهم قضاء”. وروى ابن حبان عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة”. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقرض.
والربا لا يقع في البيع والسلم إلا في ستة أشياء فقط: في التمر، والقمح، والشعير، والملح، والذهب، والفضة. والقرض يقع في كل شيء، فلا يحل إقراض شيء ليرد إليك أقل ولا أكثر، ولا من نوع آخر أصلا. لكن مثل ما أقرضت في نوعه ومقداره. والفرق بين البيع، والسلم، وبين القرض، أن البيع والسلم يكونان في نوع بنوع آخر، وفي نوع بنوعه، ولا يكون القرض إلا في نوع بنوعه ولا بد. وأما كون الربا في هذه الأنواع الستة فقط، فلأن إجماع الصحابة انعقد عليها، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد”. رواه مسلم عن عبادة بن الصامت. فالإجماع والحديث نص على أشياء معينة فيها الربا، فلا يثبت إلا فيها. ولم يرد في غير هذه الأنواع الستة دليل على التحريم، فلا يكون الربا في غيرها، ويدخل فيها كل ما هو من جنسها، وما ينطبق عليه وصفها. وأما ما عداها فلا يدخل. أما تعليل التحريم في هذه الأشياء فلم يرد في النص، فلا يعلل؛ لأن العلة علة شرعية، لا عقلية، فما لم تفهم العلة من نص فلا تعتبر. وأما قياس العلة فلا يأتي هنا؛ لأنه يشترط في قياس العلة أن يكون الشيء الذي اعتبر علة وصفا مفهما، حتى يصح القياس عليه، فإذا لم يكن وصفا مفهما، بأن كان اسما جامدا، أو كان وصفا غير مفهم، فلا يصلح أن يكون علة، ولا يقاس عليه غيره، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال، كما روى ابن ماجه من طريق أبي بكرة، “لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان” اعتبر الغضب علة لمنع القضاء، لأن الغضب وصف مفهم للمنع فكان علة، واستنبطت عليته مما فيه من معنى فهم منه أن المنع كان لأجله. وهذا المعنى هو تحير العقل، فيقاس على الغضب كل ما فيه، مما جعل الغضب علة، وهو تحير العقل، كالجوع الشديد مثلا. فهنا يصح أن يقاس غير الغضب على الغضب، لأن لفظ (الغضب) وصف مفهم لمنع القضاء، بخلاف قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة). (المائدة 3) فإن الميتة ليست وصفا مفهما للتحريم، فلا يقاس عليها، فينحصر التحريم بالميتة؛ وكذلك إذا ورد النص على تحريم الربا في القمح، فإنه لا يقاس عليه، لأن القمح اسم جامد، وليس وصفا مفهما، فلا يقال حرم الربا في القمح لأنه مطعوم، إذ هو ليس وصفا مفهما، فلا يعتبر علة للتحريم، ولا يقاس عليه غيره”.
وقبل أن نودعكم أحبتنا الكرام نذكركم بأبرز الأفكار التي تناولها موضوعنا لهذا اليوم:
تعريف الربا والصرف:
1. الربا: هو أخذ مال بمال من جنس واحد متفاضلين. كأخذ رطل من القمح الجيد برطلين من القمح الرديء.
2. الصرف: هو أخذ مال بمال من الذهب والفضة من جنس واحد متماثلين، أو من جنسين مختلفين متماثلين، أو متفاضلين.
الفرق بين الربا والصرف:
1. الصرف لا يكون إلا في البيع.
2. الربا لا يكون إلا في بيع، أو قرض، أو سلم.
تعريف البيع والسلم والقرض:
1. البيع هو مبادلة المال بالمال تمليكا وتملكا وهو جائز لقوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا).
2. السلم فهو أن يسلم عرضا حاضرا بعرض موصوف في الذمة إلى أجل. ويسمى سلما وسلفا. وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد به البيع، وبلفظ السلم، وهو جائز، لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه).
3. القرض هو نوع من السلف، وهو أن يعطي مالا لآخر ليسترده منه، وهو جائز لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
مثال من السنة المطهرة يوضح القرض:
استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بكرا، ومعنى “استسلف” أي استقرض, ومعنى “بكرا”: هو الفتي من الإبل. فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا، ومعنى “رباعيا” هو ما دخل في السنة السابعة لأنها سن ظهور الرباعية. فقال عليه السلام: “أعطه إياه إن خيار الناس أحسنهم قضاء”.
الأشياء التي يقع فيها الربا والقرض:
1. الربا لا يقع في البيع والسلم إلا في ستة أشياء فقط هي: التمر، والقمح, والشعير, والملح, والذهب, والفضة.
2. القرض يقع في كل شيء.
فلا يحل إقراض شيء ليرد إليك أقل ولا أكثر، ولا من نوع آخر أصلا. لكن مثل ما أقرضت في نوعه ومقداره.
الفرق بين البيع والسلم وبين القرض:
1. البيع والسلم يكونان في نوع بنوع آخر، وفي نوع بنوعه.
2. القرض لا يكون إلا في نوع بنوعه ولا بد.
سبب كون الربا في الأنواع الستة فقط:
1. لأن الإجماع والحديث نص على أشياء معينة فيها الربا، فلا يثبت إلا فيها.
2. لم يرد في غير هذه الأنواع الستة دليل على التحريم، فلا يكون الربا في غيرها.
3. يدخل في الأنواع الستة كل ما هو من جنسها، وما ينطبق عليه وصفها. وأما عداها فلا يدخل.
تحريم الربا في الأنواع الستة غير معلل:
لم يرد في النص تعليل تحريم الربا في هذه الأشياء، فلا يعلل؛ لأن العلة علة شرعية، لا عقلية، فما لم تفهم العلة من نص فلا تعتبر.
الأنواع الستة لا يقاس عليها غيرها:
وأما قياس العلة فلا يأتي هنا لسببين اثنين:
1. لأنه يشترط في قياس العلة أن يكون الشيء الذي اعتبر علة وصفا مفهما، حتى يصح القياس عليه. فإذا لم يكن وصفا مفهما، بأن كان اسما جامدا، أو كان وصفا غير مفهم، فلا يصلح أن يكون علة، ولا يقاس عليه غيره.
2. لأنه إذا ورد النص على تحريم الربا في القمح، فإنه لا يقاس عليه، لأن القمح اسم جامد، وليس وصفا مفهما، فلا يقال حرم الربا في القمح لأنه مطعوم، إذ هو ليس وصفا مفهما، فلا يعتبر علة للتحريم، ولا يقاس عليه غيره, فلا يقاس الأرز على القمح لاشتراكهما في علة واحدة وهي أن كلا منهما يكال ويدخر.
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.