بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
الحلقة الحادية عشرة
الحمد لله رب العالمين, والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى إمامِ المتقين, وسيِّدِ المرسلين, المبعوثِ رحمةً للعالمين, سيدِنا محمدٍ وعلَى آلهِ وصَحبِهِ أجمعين, واجعلنا مَعَهم, واحشرنا في زُمرتهم برَحمتكَ يا أرحمَ الراحمين.
السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق:
قال تعالى في محكم كتابه وهو خير القائلين: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. (آل عمران31)
قال الأزهري: “محبةُ العبد لله ورسوله تعني طاعتُه لهما، واتباعه أمرهما”. وقال البيضاوي: “المحبة إرادة الطاعة”.
وقال ابن عرفة: “المحبة، عند العرب، إرادة الشيء على قصد له”. وقال الزجاج: “ومحبة الإنسان لله ورسوله طاعته لهما، ورضاه بما أمر الله سبحانه به، وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَرَحِم اللهُ الشاعِرَ حَيثُ قال:
تَعصِي الإلهَ وأنتَ تزعمُ حُبَّهُ هذا مُحالٌ في القياسِ شَنيـعُ
لَو كانَ حُبكَ صادقاً لأطعتَهُ إنَّ المحبَّ لمن يُحبُّ مُطيـعُ
وحبُّ اللهِ سبحانه للعبد يعني المغفرة والرضى والثواب، قال البيضاوي: “يحببكم الله: يغفر لكم، أي يرضى عنكم”. وقال الأزهري: “ومحبة الله للعباد إنعامُه عَلَيهم بالغُفران”، قالَ اللهُ تعَالى: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}. (آل عمران32) أي لا يغفر لهم. وقال سفيان بن عيينة: “يحببكم الله” أي يُقرِّبكُم، والحبُّ هو القُربُ، والله لا يحبُّ الكافرين، لا يُقرِّبُ الكافرين”.
وقال البغوي: “وحب الله للمؤمنين ثناؤه عليهم، وثوابُه لهم، وعفوه عنهم”. وقال الزجَّاجُ: “والمحبَّةُ مِنَ اللهِ لخلقِهِ، عفوُهُ عَنهُم، وإنعامُهُ عليهم برحمتِه وَمَغفرَتِه وحُسنِ الثناءِ عليهم”.
أيها المسلمون:
إن الذي يَعنينا هُنا هُو محبةُ العَبدِ للهِ وَرسُولِه، هَذِه المحبةُ بالمعنى المذكور فُرض، إذ المحبةُ مَيلٌ مِنَ الميول التي تُكوِّنُ نَفسيةَ الإنسانِ، وهذِه الميول قد تَكُونُ فِطريةً غريزيةً، لا عَلاقَة لها بأيِّ مَفهوم، كَميلِ الإنسانِ إلى التملُّك، وحُبِّ البقاء، وحُبِّ العَدل، وحُبِّ الأهلِ والوَلَد…، وقد تَكُونُ دَوافِعَ مَربوطةً بمفاهيم، وهذِه المفاهيمُ هي التي تحدِّد نَوع الميلِ، فالهنودُ الحمرُ لم يحبُّوا المهاجرينَ إليهم مِنَ الأوروبيين، بينما كانَ الأنصارُ يحبُّون من هَاجَرَ إليهم، ومحبَّةُ اللهِ ورَسولِهِ هي النَّوعُ الذي ربطَهُ الله سبحانه بمفهومٍ شَرعي جعلَه فرضاً، والأدلة على ذلك من الكتاب:
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}. (البقرة 165) والمعنى أن الذين آمنوا أشد حباً لله، من حب المشركين للأنداد.
وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. (التوبة 24)
أما الأدلة من السنة أيها المسلمون:
فكثيرة نذكر مِنهَا: عن أنسٍ رضي الله عنه «أنَّ رجلاً سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّاعةِ، فقالَ: متى الساعة؟ قَالَ: وماذا أعدَدتَ لها؟ قال: لا شيء، إلاَّ أني أحِبُّ اللهَ ورَسُولَه، فَقالَ أنتَ مَعَ مَن أحبَبْتَ. قَالَ أنسٌ: فما فَرِحنا بشيءٍ فَرَحَنا بقَولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت». قالَ أنسٌ: فأنا أحِبُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعُمر وأرجُو أن أكُونَ مَعَهُم بحُـبِّي إيَّاهُم، وإن لم أعمل بمثلِ أعمَالهم».
ومِنهَا: عَن أنسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيهِ، وَجَدَ بهنَّ حَلاوَةَ الإيمان: مَن كانَ اللهُ ورَسُولُهُ أحبَّ إليهِ ممَّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحبُّهُ إلاَّ للهِ، وأن يَكرَهَ أن يَعُودَ في الكُفر كَما يَكرهُ أن يُقذَفَ في النَّار». ومِنهَا: عَن أنسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يُؤمنُ عَبدٌ حتى أكونَ أحَبَّ إليهِ مَن أهلِهِ ومَالِهِ والنَّاسِ أجمعين».
ومِنهَا أيضاً: عَن أنسٍ رضي الله عنه قاَلَ: «لمَّا كانَ يَومُ أحُد، انهزمَ النَّاسُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأبُو طلحَةُ بَينَ يَدَيِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مُجَوِّبٌ بهِ علَيهِ بحُجفَةٍ لَه، وكان أبو طلحةَ رَجلاً رَامياً شَدِيدَ القِدِّ، يَكسِرُ يَومئذٍ قَوسينِ أو ثلاثاً، وكان الرَّجلُ يمرُّ، مَعَهُ الجُعبةُ مِنَ النَّبلِ، فيقول: انشُرهَا لأبي طَلحةَ. فأشرَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَنظُرُ إلى القَومِ، فيقُولُ أبُو طلحَةَ: يَا نبيَّ اللهِ بأبي أنتَ وأمِّي، لا تُشرِفْ يُصيبُكَ سَهمٌ مِن سِهَامِ القَوم، نَحرِي دُونَ نحرِك!».
ومِنهَا كَذلِكَ: عَن قَيسٍ قَال: «رأيتُ يَدَ طَلحَةَ شلاء وَقَى بها النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَومَ أحُد».
وقد كانَ أصحابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحرصُونَ علَى تَطبيقِ هَذا الواجِب ألا وهُو حُبُّ اللهِ ورَسُولِه، ويتَسابقُون في نَيلِ هَذا الشَّرفِ طَمعاً في أن يَكُونوا ممَّن يُحبُّهُمُ اللهُ ورَسُولُه.
فتشبَّهوا إن لم تكونُوا مثلَهمْ إنَّ التشبُّـهَ بالكـرامِ فلاحُ
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, عَلَى أنْ نُكمِلَ تأمُّلاتنا في الحَلْقاتِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعالى, فإلى ذَلكَ الحِينِ وَإلى أنْ نَلقاكُم, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ. نَشكُرُكُم وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.