أهمية ضبط السلوك بالفكر الراقي
أعطت الشريعة الإسلامية للأخلاق مكانة عليّة؛ ذلك أنها ربطتها بالحلال والحرام فصارت من مكونات الشخصية الإسلامية. وقد ارتبطت الأخلاق عند الناس بالسلوك العام الذي ينتج من أفراد معينين تجاه الآخرين، فكانت مقياساً عند العامة للحكم على شخص بأنه جيد أو سيئ.
لهذا لا يقبل الناس من الشاب أو الشابة دعوتهم للعمل معهم لاستئناف الحياة الإسلامية إن كان أسلوبهم فظاً غليظاً منفراً! ولا يقبل أحد منا التحدث لشخص يدعي أنه حامل دعوة وهو يتلفظ معه بألفاظ غير منضبطة لا تليق بمسلم، ناهيك عن حامل أو حاملة دعوة.
كان رسول الله e يقول: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً». ويقول e: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً». فكيف لحامل الدعوة أن يقوم بواجبه الشرعي الذي اضطلع به وهو يهمل جانباً أو جوانب من حسن الخلق! لقد علّمنا الصحابة الكرام حسن الخلق من خلال تعاملهم مع بعضهم ورقيّهم في تواصلهم، ومن ذلك الرفق ببعضهم مصداقاً لقول رسولنا الكريم e: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه».
وإني لأعجب من مسلم – فكيف بحامل الدعوة – يُقبل على أصحابه مكفهرَّ الوجه عاقد الحاجبين، ويريد بعد ذلك أن يكون له حظ من رضوان الله ونصيب من رضا رسول الله e وهو القائل صلوات ربي عليه وسلامه: «تبسمك في وجه أخيك صدقة»! ثم كيف يجد له مكاناً في قلوب الناس الآخرين إن لم يحرص على مكانته في قلوب أقرب الناس إليه من حملة الدعوة؟ ولست هنا بصدد سرد أمثلة على مثل هذه الحالات التي تتكرر بشكل شبه يومي بين الإخوة والأحبة في الله والتي تؤذي علاقتهم وتخدش محبتهم لبعضهم، لكنني أريد فقط التذكير حرصاً على تلافيها وأملاً في أن نعود لتلك العصور الجميلة التي سادت في تاريخنا، وخيرها عصر النبي والصحابة صلوات ربي وسلامه عليه وعليهم أجمعين حين كانت روح المحبة والألفة تسود في المجتمع الإسلامي حتى وصلت محبتهم لبلاد ما دخلتها الجيوش الإسلامية بل دخلتها أخلاقهم ومعاملتهم فأقبل الناس على الإسلام أفواجاً.
إن التربية الإسلامية التي علمنا إياها رسولنا الكريم e وانتقلت جيلاً بعد جيل إلى الأمة جمعاء حرصت كل الحرص على التحلي بالصفات الراقية للخلق، مثل الصدق والوفاء والطاعة والمحبة والمعاملة الطيبة، واحترام الكبير والعطف على الصغير، ومد يد المساعدة للمحتاج، وبر الوالدين وحسن معاملتهما خاصة عند الكبر، والإحسان للجار وللصاحب وحفظ أسرارهم… ولما كان البشر بطبيعتهم التي جُبلوا عليها “مزاجيّين”، أي تتغير أمزجتهم وتتعدد ردات فعلهم حسب الظروف التي هم فيها، فالذي يعمل ساعات طويلة في النهار يكون بعدها تعباً ومنهكاً، فإن تحدث له أحدهم يكون معه بارداً مزعجاً، أو من يكون صائماً يغضب بسرعة وهكذا، فإن الإسلام لم يترك هذه الأخلاق كمتغيرات تتأثر بالواقع وتنسجم معه أو تتناغم مع الظروف المحيطة، وإنما ربطها ربطاً محكماً بالأحكام الشرعية وبالتالي بالحلال والحرام أي بالثواب والعقاب.
فالبشوش يؤجر، والصادق يُحمد فعله بينما الكاذب يأثم والعاق ينال غضب الله، وهكذا نجد أن الخلق الحسن يزداد حسناً عند أولئك الذين يسعون لرضوان الله ويبغون الاستزادة من الأجر، لكنه يفارق من حمل تلك الأحكام الشرعية في ذهنه ولم يحولها إلى سلوك، بغض النظر عن الأسباب. فتجده يسعى بين الناس ويبذل طاقات كبيرة ولكن لا ينتج عنها إلا مقتٌ لسلوكه وكرهٌ لتصرفاته حتى ينزوي عن الناس ويطلق المقولة المشهورة: “المجتمع متحجر” أو “الناس لا تفهم فكرنا”… وهكذا. لكن في حقيقة الأمر أنه هو الذي لم يحمل المفتاح الصحيح الذي يولج في باب المجتمع ليدخل منه إلى الأمة، فأخطأ وأساء لأنه لم يعوّد لنفسه على النقد الذاتي، كي يرتقي بها إلى السلوك الأفضل.
لا يرى الناس منك يا حامل الدعوة إلا السلوك، فهم لن يستطيعوا فتح عقلك ليروا ما فيه ولن يتمكنوا من الدخول إلى قلبك لينظروا إلى المفاهيم التي عشعشت فيه، فلا يبقى لهم إلا سلوكك! فإن أتيت إليهم عابساً صارخاً كارهاً، فلن يقبلوك ولو كانت أفكارك خير أفكار على البطحاء. ولن يجلس معك أحد بتاتاً مرة أخرى إن كنت في مجلسهم السابق خنت أمانات المجلس ولم تلتزم بقول رسول الله e: «المجالس أمانات». فخرجت تحدث الناس بما دار بينكم دون استئذان أهل المجلس. وهكذا يكون الإخفاق سريعاً واضحاً لا لبس فيه.
ولهذا فإنه لا يكفي أن تكون العقلية إسلامية يُصدر صاحبها الأحكام على الأشياء والأفعال إصداراً صحيحاً حسب أحكام الشرع، فيستنبط الأحكام ويعرف الحلال والحرام ويكون ناضجاً في وعيه وفكره يقول قولاً بليغاً ويحلل تحليلاً سليماً، لا يكفي ذلك ما لم تكن نفسيته نفسية إسلامية تتحلى بالأخلاق الحميدة التي يحبها المسلمون ويمجّها أعداء الدين، وإن الأمر لا يستقيم إلا إذا زيّن الخلق الكريم نواصي حملة الدعوة وصاروا ناراً على علم في حسن تأتّيهم للأمور وفي سعة صدورهم مع الناس، فالصحابة الكرام تعلموا من النبي eالخلق العالي الرفيع فكانوا بحق أشداء على الكفار رحماء بينهم، وقفوا في مواقف الحق بصلابة مع بعضهم ولكن في غيرها كانوا أشفق على بعضهم من الأم على وليدها. وعندما تنضبط الأخلاق مع السلوك ترتقي بصاحبها حتى يصبح محبوباً في الأرض وفي السماء، فيشهد له في الآخرة أهل الأرض وأهل السماء إن شاء الله تعالى.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رولا إبراهيم – بلاد الشام
2016_06_10_Art_The_importance_of_controlling_behavior_by_upscale_thought_AR_OK.pdf