الصائم مع القرآن والسنة
الصائم الباكي من خشية الله
لَمَّا كانَ ليلةٌ منَ الليالي قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ لعائشة رضي الله عنها: ذَرِيْنِيْ أتَعَبَّد الليلةَ لِرَبّي. فقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: قلتُ: واللهِ إني أحِبُّ قُرْبَكَ وأُحِبُّ مَا يَسُرُّكَ. قالتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّيْ. قالتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِيْ حَتَّى بَلَّ حِجْرَهَ. قالتْ: وكانَ جَالساً فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِيْ صلى الله عليه وسلم حتى بَلَّ لِحْيَتَهُ. قالتْ: ثُمَّ بَكَى حتى بَلَّ الأرضَ، فَجَاءَ بلالٌ يُؤْذِنُهُ بالصلاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِيْ قالَ: يا رسولَ اللهِ تَبْكِيْ وقدْ غفرَ اللهُ لكَ ما تَقَدَّمَ من ذنبِكَ ومَا تَأخَّرَ؟ قالَ: أفَلا أكونُ عبداً شَكوراً لقدْ نَزَلَتْ عليَّ الليلةَ آيةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأها ولم يَتَفَكَّرْ فيها: إن في خلق السموات والأرض..
هذا رسولُ اللهِ صلواتُ ربي وسلامُهُ عليه، كان يبكِيْ حتى تبتَلَّ لِحيتُهُ، بل حتى يَبْتَلَّ رَحْلُهُ إنْ كانَ على الراحلةِ، ويبكي حتى يبتلَّ حِجْرُهُ، وهو الأعلمُ بربّه سبحانه، وهو المغفورُ له ما تقدّمَ من ذنبِهِ وما تأخَّرَ، وهو الموعودُ بالوسيلةِ، بالدرجةِ العاليةِ الرفيعةِ، والمقامِ المحمودِ.
وعن ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنه قال: قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليَّ القرآنَ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ؛ أقرأُ عليكَ وعليكَ أُنزِلَ؟ قالَ صلى الله عليه وسلم: إني أحبُّ أن أسمعَهُ من غيري، فقرأتُ عليه سورةَ النساءِ، حتى جئتُ إلى هذهِ الآية: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا) قال صلى الله عليه وسلم: حَسْبُكَ الآنَ. فالتَفَتُّ إليهِ فإذا عيناهُ تَذْرِفانِ).
والعينُ الباكيةُ من خشيةِ اللهِ تعالى لا تَمَسُّها النارُ يومَ القيامةِ، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليهِ وسلم: (عينانِ لا تَمَسُّهُمَا النارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سبيلِ اللهِ) كما ورَدَ هذا المعنى في ما رواهُ البخاريُّ عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: (سبعةٌ يُظِلُّهُمُ الله في ظلِّهِ يومَ لا ظلَّ إلا ظِلُّهُ، ومنها: … ورَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ). وعنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لا يَلِجُ النارَ رجلٌ بكى من خَشْيَةِ اللهِ حتى يَعُودَ اللبنُ في الضِّرْعِ، ولا يجتمعُ غُبارٌ في سبيلِ اللهِ ودُخَانَ جهنمَّ).
وعن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ قال: جلسْنا إلى عبدِ الله بْنِ عَمْرٍو في الحِجْرِ، فقالَ: (ابكوا، فإنْ لَمْ تَجدوا بكاءً فتَباكَوْا، لو تعلمونَ العِلْمَ لصلّى أحدُكُمْ حتى ينكسِرَ ظهرُهُ، ولَبَكَى حتى ينقطِعَ صوتُهُ).
فمنْ أولى من الصائم بالبكاءِ من خَشيةِ اللهِ تعالى، وحينَ ذكرِ ربِّهِ العليِّ القديرِ، وهو التاركُ طعامَهُ وشرابَهُ وشَهَواتِهِ امتثالاً لأمرِ الله سبحانه، مبتغياً الأجرَ والثوابَ والفوزَ بالجنةِ، والنجاةَ من النار؟