بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح25)
معنى أن يؤمن المسلم بالقضاء خيره وشره من الله
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا “بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام” وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّانِيَةِ وَالعِشْرِينَ, وَعُنوَانُهَا: “القَدَرُ”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنْ كِتَابِ “نظَامِ الإِسلامِ” لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: “وَمِنْ هُنا كَانَتِ الأفعَالُ الَّتِي تَقَعُ فِي الدَّائِرَةِ الَّتِي تُسَيطِرُ عَلَى الإِنسَانِ مِنَ اللهِ خَيرًا أو شرًّا، وَكَانَتِ الخَاصِيَّاتُ الَّتِي وُجِدَتْ فِي الأشيَاءِ وَالغَرَائِزِ وَالحَاجَاتِ العُضوِيَّةِ مِنَ اللهِ سَوَاءٌ أنتَجَتْ خَيرًا أم شرًّا. وَمِنْ هُنَا كَانَ لِزَامًا عَلَى المُسلِمِ أنْ يُؤمِنَ بِالقَضَاءِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالى، أيْ أنْ يَعتَقِدَ أنَّ الأفعَالَ الخَارِجَةَ عَنْ نِطَاقِهِ هِيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَأنْ يُؤمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، أيْ يَعتَقِدَ بِأنَّ خَوَاصَّ الأشيَاءِ المَوجُودَةَ فِي طَبَائِعِهَا هِيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى. سَوَاءٌ مَا أنتَجَ مِنْهَا خَيرًا أمْ شرًّا، وَلَيسَ لِلإِنسَانِ المَخلُوقِ فِيهَا أيُّ أثَرٍ، فَأجَلُ الإِنسَانِ وَرِزْقُهُ وَنَفَسُهُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ اللهِ، كَمَا أنَّ المَيلَ الجِنْسِيَّ وَالمَيلَ لِلتَّمَلُّكِ المَوجُودَيْنِ فِي غَرِيزَتَيِ النَّوعِ وَالبَقَاءِ، وَالجُوعَ وَالعَطَشَ المَوجُودَيْنِ فِي الحَاجَاتِ العُضْوِيَّةِ، كُلُّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى. هَذَا بِالنِّسبَةِ لِلأفعَالِ الَّتِي تَقَعُ فِي الدَّائِرَةِ الَّتِي تُسَيطِرُ عَلَى الإِنسَانِ وَفِي خَوَاصِّ جَمِيعِ الأشيَاءِ.
أمَّا الدَّائِرةُ الَّتِي يُسَيطِرُ عَلَيهَا الإِنسَانُ فَهِيَ الدَّائِرَةُ الَّتِي يَسيُر فِيهَا مُختَارًا ضِمْنَ النِّظَامِ الَّذِي يَختَارُهُ، سَوَاءٌ شَرِيعَةُ اللهِ أو غَيرُهَا، وَهَذِهِ الدَّائِرَةُ هِيَ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الأعْمَالُ الَّتِي تَصْدُرُ مِنَ الإِنسَانِ أوْ عَلَيهِ بِإِرَادَتِهِ، فَهُوَ يَمْشِي وَيَأكُلُ وَيَشرَبُ وَيُسَافرُ فِي أيِّ وَقْتٍ يَشَاءُ، وَيَمتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ فِي أيِّ وَقْتٍ يَشَاءُ، وَهُوَ يَحْرِقُ بِالنَّارِ وَيَقطَعُ بِالسِّكِّينِ كَمَا يَشَاءُ، وَهُوَ يُشْبِعُ جَوْعَةَ النَّوْعِ، أوْ جَوعَةَ المِلْكِ، أوْ جَوعَةَ المَعِدَةِ كَمَا يَشَاءُ، يَفعَلُ مُختَارًا، وَيَمتَنِعُ عَنِ الفِعْلِ مُختَارًا، وَلِذَلِكَ يُسْأَلُ عَنِ الأفْعَالِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا ضِمْنَ هَذِهِ الدَّائِرَةِ”.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: إِنَّ مِنْ أبجَدِيَّاتِ مَا تَعَلَّمنَاهُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ رَبْطُ كُلِّ مَسألَةٍ مِنَ المَسَائِلِ, وَالنَّظَرُ إِلَى كُلِّ شَيءٍ مِنْ زَاوِيَةِ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ. وَهَا هُوَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ – يُتَوِّجُ بَحْثَ مَسألَةِ القَضَاءِ بِبَيَانِ مَعنَى الإِيمَانِ بِالقَضَاءِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ.
وَقَبلَ أنْ نَستَعرِضَ مَا قَالَهُ الشَّيخُ تَعَالَوا بِنَا نَقِفُ وَإِيَّاكُمْ وِقْفَةَ تَأمُّلٍ مَعَ الرُّكْنِ السَّادِسِ مِنْ أركَانِ الإِيمَانِ الَّذِي أُمِرْنَا بِالإِيمَانِ بِهِ ألا وَهُوَ الإِيمَانُ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ, يَقُولُ فِي حَدِيثِ جِبرِيلَ عَلَيهِ السَّلامُ: «الإيمانُ أنْ تُؤمِنَ بِاللهِ, وَمَلائِكَتِهِ, وَكُتُبِهِ, وَرُسُلِهِ, وَاليَومِ الآخِرِ, وَبِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ». وَنلْحَظُ فِي هَذَا الحَدِيثِ أنَّ كَلِمَةَ “القَدَرِ” ذُكِرَتْ وَحْدَهَا, وَلَمْ تَقتَرِنْ بِكَلِمَةِ “القَضَاءِ” كَمَا يَجرِي عَلَى ألسِنَةِ النَّاسِ فَيَقُولُونَ: “الإِيمَانُ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ”. وَالإِيمَانُ بِالقَدَرِ هُوَ رُكْنٌ عَظِيمٌ, آمَنَ بِهِ أقوَامٌ فَسَلِمَتْ حَيَاتُهُم, وَأمِنَتْ قُلُوبُهُم, وَارتَاحَتْ ضَمَائِرُهُم, وَتَعَلَّقُوا بِرَبِّهِم, وَعَلَتْ هِمَمُهُمْ فَنَالُوا حَسَنَةَ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ, وَضَل فِيهِ آخَرُونَ, فَتَخَبَّطُوا في ظُلُمَاتِ التَّيهِ وَالضَّلالِ, وَاستَولَتْ عَلَيهِمُ الحِيرَةُ, وَعَلَتْ عُقُولَهُمُ الشُّكُوكُ وَالأوهَامُ, وَقَعوا فِي اضطِرَابٍ وَعَدمِ استِقرَارٍ, وَتَقَعُ الحَوَادِثُ فَلا يَجِدُونَ لَهَا تَفْسِيرًا, وَيَسْأمُونَ مِنَ الدُّنيا, وَلا يَدرُونَ إِلَى أينَ هُمْ صَائِرُونَ, وَلَمْ يُسْعِدْهُمُ المَالُ, وَلا الشَّرَفُ, وَلا الجَاهُ, وَيُحزِنُهُمُ المَرَضُ, وَتُقلِقُهُمُ المَصَائِبُ وَقِلَّةُ ذَاتِ اليَدِ.
هَذَا الرُّكنُ هُوَ الإِيمَانُ بِالقَدَرِ, وَالقَدَرُ هُوَ تَقدِيرُ اللهِ سُبحَانَهُ لِلكَائِنَاتِ كُلِّهَا حَسَبَ مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ, وَاقتَضَتْ حِكْمَتُهُ. سُئِلَ الإِمَامُ أحْمَدُ – رَحِمَهُ اللهُ – عَنِ القَدَرِ فَقَالَ: “القَدَرُ قَدَّرَهُ اللهُ”. وَالمُسلِمُ يَجِبُ أنْ يُؤمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ, وَيَعنِي هَذَا أنْ يُؤمِنَ بِأنَّ اللهَ تَعَالَى يَعلَمُ كُلَّ شَيءٍ يَتَعَلَّقُ بِأفعَالِ العِبَادِ, وَأنَّ اللهَ كَتَبَ المَقَادِيرَ كُلَّهَا فِي اللَّوحِ المَحفُوظِ, قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). (الحج 70)
هَذَا مَا يَتَضَمَّنُهُ الإِيمَانُ بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى, وَعَلَيهِ فَكُلُّ مَا يَحصُلُ فِي هَذَا الكَونِ, مِمَّا ظِاهِرُهُ خَيرٌ أو شَرٌّ, وَمَا يَحصُلُ لِلإنسَانِ كُلَّ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللهِ, هَكَذَا يَجِبُ أنْ يُؤمِنَ المُؤمِنُ, قَالَ تَعَالَى: (ما أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). (الحديد 22) هَذَا وَإِنَّ الإِيمَانَ بِالقَدَرِ يَعنِي عِدَّةَ أُمُورٍ مِنهَا:
1- أنَّ الإِيمَانَ بِقَدَرِ اللهِ لا يُنَافِي أنْ يَكُونَ لِلعَبدِ مَشِيئَةٌ فِي أفعَالِهِ وَقُدرَةٌ عَلَيهَا, فَاللهُ سُبحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلعَبدِ مَشيئَةً, وَلَكِنَّهَا تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ, قَالَ تَعَالَى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). (التكوير 29)
2- أنَّ الإِيمَانَ بِقَدَرِ اللهِ لا يَعنِي اتِّخَاذَهُ حُجَّةً لِتَركِ الأعْمَالِ الصَّالِحَةِ, أو فِعْلِ المَعَاصِي وَالسَّيئَاتِ, وَهَذَا الاحتِجَاجُ غَايَةٌ فِي البُطلانِ وَالفَسَادِ ذَلِكَ لأنَّ اللهَ سُبحَانَهُ بَيَّنَ الطَّرِيقَ المُستَقِيمَ, وَحَثَّ عَلَيهِ, وَأمَرَ بِهِ, وَأرسَلَ الرُّسُلَ لِلدَّلالَةِ عَلَيهِ, وَحَذَّرَ مِنَ المَعَاصِي وَارتِكَابِهَا. وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ أنَا ارتَكِبُ المَعَاصِي بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى, وَلا أُصَلِّي بِقَدَرِ اللهِ, وَهَذَا مِنَ الدَّعَاوَى البَاطِلَةِ, فَيُقَالُ لَهُ: لِمَ لا تَرمِي بِنَفسِكَ فِي النَّارِ؟ وَلِمَ تَشرَبُ الدَّوَاءَ حَالَ مَرَضِكَ؟ وَلِمَ تَأكُلُ الطَّعَامَ وَتَشرَبُ الشَّرَابَ حَالَ جُوعِكَ وَعَطَشِكَ؟ لِمَ لا تَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ يَحصُلُ لَكَ بِقَدَرِ اللهِ, فَحِرْصُكَ عَلَى أُمُورِ دِينِكَ لَيسَتْ بِأقَلَّ أهَميَّةً مِنْ حِرصِكَ عَلَى أُمُورِ دُنيَاكَ, فَلا تَحتَجَّ عَلَى أُمُورِ دِينَكَ بِالقَدَرِ, وَتَترُكَ أمُورَ دُنيَاكَ. رَوَى الشَّيخَانِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ أنَّ النَّبِيَّ قَالَ: (مَا مِنكُمْ مِنْ أحَدٍ إِلاَّ قَد كُتِبَ مَقعَدُهُ مِنَ النَّارِ أو مِنَ الجَنَّةِ, فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ: ألا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لا. اعمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ, ثُمَّ قَرَأ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ). (الليل 5-7) فالنبي أمَرَ بِالعَمَلِ وَنَهَى عَنِ القُعُودِ وَالاتِّكَالِ.
3- وَالإِيمَانُ بِالقَدَرِ لا يَعنِي تَركَ فِعْلِ الأسبَابِ, وَالقُعُودِ, وَإِنْ كَانَ هَذَا الأمَرُ جُزءًا مِمَّا سَبَقَ, وَلَكِنْ يُفرَدُ لأهَميَّتِهِ وَحَاجَتِهِ لِلبَيَانِ, فَمِنَ المَعلُومِ أنَّ اللهَ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ المَقَادِيرَ كُلَّهَا, وَتَتِمُّ وَفْقَ تَقدِيرِهِ سُبحَانَهُ, وَلَكِنَّهُ مِنْ حِكمَتِهِ سُبحَانَهُ أنْ جَعَلَ لِكُلِّ نَتِيجَةٍ وَثَمَرَةٍ سَببًا فَمَنْ أرَادَ النَّسْلَ الصَّالِحَ فَلا بُدَّ أنْ يَتَّخِذَ لِذَلِكَ سَبَبًا, وَمَنْ أرَادَ الرِّزقَ فَعَلَيهِ بِالعَمَلِ وَالجِدِّ وَهَكَذَا, وَإِن مُبَاشَرَةَ الأسبَابِ وَفِعلَهَا عَزمٌ وَجِدٌّ, وَتَركُهَا قُعُودٌ وَتَخَاذُلٌ. وَقَد كَانَ النَّبِيُّ أفضَلَ المُتَوَكِّلِينَ, يَلبَسُ لأمَةَ الحَرْبِ, وَيَمشِي فِي الأسوَاقِ لِلاكتِسَابِ. قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللهُ-:
دَعِ الأيَّـامَ تَفْعَـلْ مَا تَشَاءُ … وَطِبْ نَفسًا إِذَا حَكَمَ القَضَاءُ
وَلا تَجْزَعْ لأحْـدَاثِ اللَّيَالِي … فَمَا لِحَـوادثِ الدُّنيَا بَقَـاءُ
اللَّهُمَّ رَضِّنِا بِقَضَائِكَ، وَبَارِكْ لِنا فِي قَدَرِكَ، حَتَّى لَا نحِبَّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ, وَلَا تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ. آمِين يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
بَعْدَ هَذِهِ الوِقْفَةَ نأتي إِلَى كَلامِ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ – رَحِمَهُ اللهُ – فَهُوَ يُقَرِّرُ أنَّ الأفعَالَ الَّتِي تَقَعُ فِي الدَّائِرَةِ الَّتِي تُسَيطِرُ عَلَى الإِنسَانِ خَيرًا أو شرًّا هِيَ مِنَ اللهِ، وَكَذَلِكَ الخَاصِيَّاتُ الَّتِي وُجِدَتْ فِي الأشيَاءِ وَالغَرَائِزِ وَالحَاجَاتِ العُضوِيَّةِ هِيَ مِنَ اللهِ سَوَاءٌ أنتَجَتْ خَيرًا أم شرًّا. ومَعنَى الإِيمَانِ بِالقَضَاءِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ أنْ يَعتَقِدَ أنَّ الأفعَالَ الخَارِجَةَ عَنْ نِطَاقِهِ هِيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَأنْ يُؤمِنَ بِأنَّ القَدَرَ خَيرَهُ وَشَرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَيُفَسِّرُ ذَلِكَ فَيَقُولُ: أيْ يَعتَقِدَ بِأنَّ خَوَاصَّ الأشيَاءِ المَوجُودَةَ فِي طَبَائِعِهَا هِيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى, سَوَاءٌ مَا أنتَجَ مِنْهَا خَيرًا أمْ شرًّا، وَلَيسَ لِلإِنسَانِ المَخلُوقِ فِيهَا أيُّ أثَرٍ، وَيُعطِي عَلَى ذَلِكَ أمثِلَةً منها أنَّ أجَلَ الإِنسَانِ وَرِزْقَهُ وَنَفَسَهُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ اللهِ، وَمِنْهَا أنَّ المَيلَ الجِنْسِيَّ, وَالمَيلَ لِلتَّمَلُّكِ المَوجُودَيْنِ فِي غَرِيزَتَيِ النَّوعِ وَالبَقَاءِ، وَأنَّ الجُوعَ وَالعَطَشَ المَوجُودَيْنِ فِي الحَاجَاتِ العُضْوِيَّةِ، كُلُّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى. وَبَعدَ الحَدِيثِ عَنِ الأفعَالِ الَّتِي تَقَعُ فِي الدَّائِرَةِ الَّتِي تُسَيطِرُ عَلَى الإِنسَانِ وَفِي خَوَاصِّ جَمِيعِ الأشيَاءِ يَنتَقِلُ الشَّيخُ إِلَى الحَدِيثِ عَنِ الدَّائِرةِ الَّتِي يُسَيطِرُ عَلَيهَا الإِنسَانُ, وَيَذكُرُ أنَّهَا الدَّائِرَةُ الَّتِي يَسيُر فِيهَا الإِنسَانُ مُختَارًا ضِمْنَ النِّظَامِ الَّذِي يَختَارُهُ، سَوَاءٌ شَرِيعَةُ اللهِ أو غَيرُهَا، وَيَذكُرُ أنَّ هَذِهِ الدَّائِرَةَ هِيَ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الأعْمَالُ الَّتِي تَصْدُرُ مِنَ الإِنسَانِ أوْ عَلَيهِ بِإِرَادَتِهِ، وَيُعطِي عَلَى ذَلِكَ أمثِلَةً مِنهَا أنَّ الإِنسَانَ يَمْشِي وَيَأكُلُ وَيَشرَبُ وَيُسَافرُ فِي أيِّ وَقْتٍ يَشَاءُ، وَيَمتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ فِي أيِّ وَقْتٍ يَشَاءُ، وَمِنهَا أنَّ الإِنسَانَ يَحْرِقُ بِالنَّارِ وَيَقطَعُ بِالسِّكِّينِ كَمَا يَشَاءُ، وَمِنهَا أنَّ الإِنسَانَ يُشْبِعُ جَوْعَةَ النَّوْعِ، أوْ جَوعَةَ المِلْكِ، أوْ جَوعَةَ المَعِدَةِ كَمَا يَشَاءُ، يَفعَلُ مُختَارًا، وَيَمتَنِعُ عَنِ الفِعْلِ مُختَارًا، وَفِي خِتَامِ المَوضُوعِ يُخبِرُنَا الشَّيخُ بِنَتِيجَةِ بَحْثِ هَذِهِ المَسألَةِ, وَهِيَ أنَّ الإِنسَانَ يُسْأَلُ عَنِ الأفْعَالِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا ضِمْنَ هَذِهِ الدَّائِرَةِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.