العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة الأولى
يختلف الإنسان عن غيره من المخلوقات المحسوسة، فهو وإن كان يشترك معها كلها في ماديته، ويشترك مع النباتات والحيوانات في كثير من حاجاته العضوية الحيوية، ومع الحيوانات في كثير من دوافعه السلوكية، إلا أنه يختلف عنها كلها بعقله، وأنها كلَّها مسخرةٌ له، ينتفع بها بقدر ما تتوصل إليه قدراته الجسمية والعقلية.
فالإنسان لديه:
1- حاجات عضوية
2- غرائز
3- عقل
والحاجات العضوية حاجات لا تستقيم أمور جسمه المادية بدونها، فبعدم إشباعها يموت الإنسان، وهي إضافة إلى ذلك إثارتها داخلية، أي يحسّ الإنسان بالجوع نتيجة عمليات فسيولوجية عصبية، تدفعه لأن يأكل، ويحس بالنعاس نتيجة عمليات فسيولوجية عصبية تدفعه لأن ينام، وهكذا، وهذه الحاجات هي: الحاجة إلى الطعام، والحاجة إلى الشراب، والحاجة إلى النوم، والحاجة إلى الإخراج، والحاجة إلى التنفس، وإن كان التنفس غير إراديّ، لكنه بنقصه أو ضعفه أو فقدانه يدفع صاحبه لتوفيره.
وبهذا يكون قد اتضح النوع الأول من دوافع السلوك، وهي الدوافع التي تدفعه لإشباع حاجاته العضوية.
أما الغرائز، فهي دوافع خلقت مع الإنسان، خلافاً لعلماء ما يسمى بعلم النفس، الذين يقولون إنها توجد مع الإنسان في نشأته وحين تربيته، فالإنسان يندفع للمحافظة على حياته تلقائيا بمجرد مشاهدة أي خطر يهدد حياته، ويندفع للدفاع عن نفسه، ويندفع للاعتداء على أقرانه، ويحس بالعجز الطبيعي فيبكي إن كان طفلاً صغيراً لعدم تلبية حاجته، ويقلق إن كان كبيراً ولم يستطع تلبيتها، وهكذا.
ويبدو أن الذي أدى بعلماء ما يسمى بعلم النفس إلى القول إنها تنشأ مع الإنسان في نموه وتربيته، إنما هو الخلط بين الدافع السلوكي المخلوق مع الإنسان أصلاً، وبين المفهوم المصاحب له، الذي ينشأ مع الإنسان في نموه وتربيته وتعلمه، فالطفل الصغير الذي لم يتشكل لديه مفهوم الحفرة والوقوع في الحفرة لا يدرك خطر الوقوع فيها على حياته، والذي لم يتشكل لديه مفهوم إغراق الماء، لا يدرك خطر الوقوع في بركة ماء أو بئر ماء، فلما رأوا أن الإنسان منذ طفولته تتشكل مفاهيمه عن الأشياء حوله، ظنوا أنه تنشأ معه الدوافع الغريزية من تربيته وتعلمه وتَشَكُّلِ المفاهيم.
كما أنهم –أي علماء النفس- خلطوا بين الغريزة ومظاهرها، فالغرائز عند الإنسان ثلاث:
– البقاء
– النوع
– التدين
ولكل واحدة منها مظاهر متعددة، فمن مظاهر غريزة البقاء: كراهية الموت، التملك، الدفاع عن النفس، التداوي، وغير ذلك. ومن مظاهر غريزة النوع: الميل الجنسي، الحنان، العطف، حب الوالدين، والأبناء، والإخوة، والصديق، وغير ذلك. ومن مظاهر غريزة التدين: الإحساس بالعجز الطبيعي، الإحساس بالنقص، الحاجة للخالق المدبر، التقديس، وغير ذلك.
لكن علماء النفس لم يفرقوا بين الغريزة ومظهرها، فإن أصل الغريزة عند الإنسان لا يمكن محوه أو إزالته، ولكن يمكن التخلص من مظهر بمظهر آخر، كمحو الأثرة بالإيثار، وكمحو حب الزوجة بحب الأم عند بعض الناس، وهكذا.
والفرق بين الغريزة والحاجة العضوية من جهتين:
1- من جهة الإثارة، فالحاجة العضوية إثارتها داخلية، فسيولوجية عصبية، أما الغريزة فإثارتها خارجية، إما بمشاهدة المثير فتحصل الإثارة، وإما باستحضار صورة المثير وتذكره.
2- من جهة نتيجة عدم الإشباع، فالحاجة العضوية يؤدي عدم إشباعها إلى الموت، أما الغريزة فإن عدم إشباعها لا يؤدي إلى الموت، بل يؤدي إلى القلق والاضطراب والتوتر، وكم من الناس عاش محروماً من الزواج مثلاً، أو من المال، أو من الإنجاب، أو غير ذلك، فالذي نشأ عندهم نتيجة ذلك إنما هو قلق واضطراب وهمّ وتنغيص في العيش، ولم يحصل أن مات أحد من الناس نتيجة حرمان من إشباع مظهر غريزي.
والعقل عند الإنسان أو التفكير هو الذي يميزه، ويميز سلوكه، ويجعله ناهضاً راقياً، أو يجعله منحطاً، به يحكم على الأشياء حوله، وبه يتخذ قراراته، وبه يحدد كيفية إشباعه لحاجاته العضوية وغرائزه، وبه يختار بين المشبعات حين تتعدد.
والتفكير عند الإنسان لا بد له من أربعة أركان: واقع يفكر فيه، وحواسَّ تنقل الواقع إلى الدماغ، ودماغ صالح للربط، ومعلومات سابقة عن الواقع المراد التفكير فيه، فالتفكير ربط للواقع بالمعلومات المتعلقة به لتفسيره أو لإصدار حكم عليه.
ولكن لا بد للإنسان من طريقة يعقل بها، يستخدمها حين الحكم على الأشياء،
(والإنسان يكيف سلوكه في الحياة بحسب مفاهيمه عنها ، فمفاهيم الإنسان عن شخص يحبه تكيف سلوكه نحوه ، على النقيض من سلوكه من شخص يبغضه وعنده مفاهيم البغض عنه ، وعلى خلاف سلوكه مع شخص لا يعرفه ولا يوجد لديه أي مفهوم عنه ، فالسلوك الإنساني مربوط بمفاهيم الإنسان) نظام الإسلام، من منشورات حزب التحرير، 1953، ط7، ص3.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن