العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة الثامنة
وهذا الحل هو فكرة كلية غير تفصيلية، عما قبل وعما بعد، وهذا الحل يشكل القاعدة الفكرية التي يبني عليها الإنسان أفكاره ومفاهيمه، ويسير سلوكاته بحسبها.
فبني عليها أن الله تعالى أرسل إلينا رسلاً ليبلغنا الأوامر والنواهي التي نسير بحسبها لنعيش بسعادة ونفوز برضوانه، وكان محمدٌ صلى الله عليه وسلم آخر رسول، وكانت رسالته آخرَ رسالة، وكانت خاتمةَ الرسالات وناسخةً لها ومهيمنة عليها، وكانت الرسالة الخاتمة متضمنة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وما أرشدا إليه من قياسٍ وإجماع صحابة، بلغنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تضمنت المفاهيم الصحيحة التي تسعدنا في هذه الحياة الدنيا، والأحكام الشرعية التي نسير سلوكاتنا بحسبها، وكل من المفاهيم والأحكام تحقق لمعتنقها أكبر قدر من الرضا، بقدر حمله للمفاهيم الصحيحة، وبقدر تسييره لأعماله بحسب تلك الأحكام الشرعية (الأوامر والنواهي) بقدر التزامها (المفاهيم، والأحكام) يتحقق الرضا الدائمي، الذي هو السعادة في الدنيا، ويتحقق الفوز في الآخرة، بالنجاة من عذاب جهنم، والفوز بالجنة. وكلما ازداد الالتزام بالمفاهيم والأحكام ازداد الرضا وارتفعت نسبة السعادة، بغض النظر عن حال الإنسان من بؤس وفقر وجوع وعطش وألم وشدة وغيرها من أنواع الابتلاءات التي تكون خيراً له، وتقع من نفسه موقع الرضا والقبول والتسليم المطلق، ذلك أن الحياة الدنيا حياة عمل وابتلاء، قال سبحانه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)، وقال عز من قائل: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، وقال عز وجل: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)، ويبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه رقةٌ خفف عنه، وإن كان في دينه شدة زيد عليه، وأشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل.
فلا يظنن أحدٌ أنه هنا في هذه الحياة الدنيا ليأكل ويتمتع ويبني القصور والبيوت، إنما كل هذا تحصيل حاصل، وليس هو الغاية من الوجود، وقد ضمن الله سبحانه لكل إنسان رزقه، فلا يجوز أن يجعله الغاية من الوجود، أو القضية المصيرية لوجوده، بل القضية المصيرية لكل إنسان هي رضوان الله تعالى، لأن برضوانه سبحانه يكونُ الفوزَ، وبغضبه وعدم رضوانه يكون الخسرانُ المبين. وبرضوانه تكون السعادة، وبغضبه يكون الشقاء.
يقول الحق جلا وعلا: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، ويقول أيضاً: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)، فالإنسان لم يخلق عبثاً، وكل واحد من أفراد هذا الجنس البشري لم يخلق عبثاً، بل إنك أيها الإنسان كريم على الله تعالى، ولقد كرّمك بأمور كثيرة، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، فاعرف من خلقك، واعرف لماذا خلقك وماذا يريد منك، واعرف مصيرك ومرجعك، لتعرف بعدها مقاييسك الصحيحة في هذه الحياة الدنيا، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) فعليك بهدى الله (قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى) (قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، فمن اتبع هدى الله فإنه لا يضلّ في هذه الحياة الدنيا، ولا يشقى فيها، ومفهوم المخالفة المستفاد من الشرط في الآية يعني أن من لم يتبع هدى الله، أو اتبع غيره، فإنه يضل ويشقى، وهذا سبب شقاء كثير من البشر اليوم، لأنهم لم يتبعوا هدى الله، بل اتبعوا ضلال عقولهم وأهوائهم وشهواتهم.
قلنا إن الحل العقلي الصحيح الوحيد للعقدة الكبرى هو في رسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وسنرى في الصفحات التالية كيف أن حلّ العقدة الكبرى عن طريقها يلزم منه حل العقد الصغرى كلها عند الإنسان.
قلنا إن وجود الإنسان في هذه الأرض، في هذه الحياة الدنيا مرتبط بأمرين: مرتبط بما قبل الحياة الدنيا، ومرتبط بما بعدها. وله علاقة مع ما حوله بما قبل الحياة، وله علاقة مع ما حوله بما بعد الحياة.
الأمر الأول ينشأ عن الخلل فيه عقدة الاستقلال، والأمر الثاني ينشأ عن الخلل فيه عقدة البعدية أو البعدينية. والأمر الثالث ينشأ عن الخلل فيه العقد الصغرى.
فالإنسان بوصفه إنساناً متصل مع ما يحيط به من إنسان وكون وحياة، يتعامل معها، وهو مع ما يحيط به متصل بما قبل الحياة الدنيا، وهذه الصلة هي صلة الخلق والإيجاد، وهو كذلك مع ما يحيط به متصل بما بعد الحياة الدنيا، وهذه الصلة هي صلة البعث والنشور، وينشأ عن الصلتين الصلة الثالثة وهي صلة الأوامر والنواهي، فهذه الصلة اقتضتها الصلة الأولى، ويتحدد مصير الإنسان في صلة البعث والنشور على صلة الأوامر والنواهي.
فالإنسان موجود في هذا الكون ليتلقى الأوامر والنواهي من الله تعالى ويسير بحسبها، وإن لم يفعل وقع في ثلاثة شرور:
الأول: شر عقدة الاستقلال.
الثاني: شرور العقد الصغرى.
الثالث: شر عقدة البعدية.
ونبدأ بهذه العقد الكبرى، وكيف حلها الإسلام.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن
لمتابعة باقي حلقات السلسلة