العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة التاسعة
أولاً: عقدة الاستقلال
وهي المتعلقة بصلته بما قبل الحياة الدنيا، فإنّ الإنسان منذ بَدْءِ إدراكه في هذه الدنيا يبحث عن ذاته، ليعرف من هو؟ وكيف جاء؟ ومن الذي أتى به إلى هذه الدنيا؟ يبدأ بسؤال والديه، يبدأ برحلة البحث عن الحقيقة منذ طفولته، فمن الناس من يصل إلى الحقيقة، ومنهم من يعيش ويموت دون أن يصل إلى الحقيقة.
والحقيقة القاطعة التي لا شك فيها، أنّ هذا الإنسان مخلوق لخالق، وهو الله تعالى، وأنه تعالى خلقّه من العدم، واستعمرَه في هذه الأرض، واستخلفَه فيها، وحمّله الأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، بطبيعة خلقه.
فإن عرف الإنسان هذه الحقيقة عرفَ ذاتَه ونفسَه، وأدركَ حجمَه الحقيقي، فلا يستقل عمّن خلقه، ولا يُديرُ ظهرَه إليه، ولا يتمرد عليه، ولا يجعل من نفسِهِ إلهاً من دونه، يشرع لنفسه ما تقوده إليه أهواؤه، يحلل ويحرمٌ بدعوى الحريات، بل إن فكرةَ الحرية الشخصية تعني أنّ الإنسان يجعل من نفسِه إلهاً، وهذه مصيبة من لم يصل إلى الحقيقة، يحسّ بعقدة الاستقلال، الاستقلال عن خالقه، وهو- أي الإنسان- أعجزُ من أن يخلقَ ذبابةً، بل إنه أعجزُ من أن يستطيع بما أوتي من قوة أن يستنقذ ما سلبته إياه الذبابة.
إن عقدةَ الاستقلال سببٌ كبيرٌ جداً ومهم في إيقاع الإنسان في الشقاء، فإنه يرى خطأه في كل شيء يقوم به، بل إنه يفقد الغاية من أعماله في مرحلة من مراحل حياته، فلا يحسّ بطعم للحياة.
إن عقدة الاستقلال توقع صاحبها في صراع مرير بين دوافعه ورغباته وبين عقله، فإن الإنسان حمل الأمانة في هذا الكون بهذا العقل الذي وهبه الله سبحانه وتعالى إياه، ولكن لعدم إدراك واقع عقله، وعدم إدراك مجال هذا العقل نتج أن اغترّ الإنسان بهذا العقل، فلم يجعل له حدوداً، وأخذ يتصرف في هذا الكون على أنه هو وحده الإله، ولا حق لإله غيره بأن يهديه أو يرشده أو يدلّه على الطريق الصحيح.
إن عقل الإنسان لا يعمل إلا ضمن شروطه، من توافر الأركان الأربعة لتفكيره، وهي الواقع والحواس والدماغ الصالح للربط والمعلومات السابقة، فإن فقد أي ركن من هذه الأركان الأربعة فقد التفكير، وعليه فإن الإنسان محدود في تفكيره.
وكذلك فإن عقل الإنسان يتصف بصفات الاختلاف والتفاوت والتناقض والتأثر بالبيئة، فهو قد يحكم بحكمين مختلفين على نفس الواقع في زمانين مختلفين، أو في مكانين مختلفين، وكذلك قد يحكم حكمين متفاوتين على نفس الواقع، بل إن الإنسان كلما تقدم به العمر واتسعت مداركه أكثر، وازدادت معلوماته السابقة، واتسعت خبراته أحسّ بأن حكمه قد صار أقوى أو أدق من ذي قبل، وقد يحكم بحكمين متناقضين على نفس الواقع بتغير الزمان أو المكان أو المعلومات السابقة، سواء على مستوى الشخص الواحد، أو على مستوى تعدد الأشخاص، ثم إن حكم الإنسان يتأثر بالبيئة المحيطة به، لأنها تفرض عليه نمطاً معيناً من أنماط التفكير، فيكون أسيراً لهذا النمط ما دام في هذه البيئة.
ثم إن حكم الإنسان على أي واقع لا يتجاوز واحداً من اثنين: بيان حقيقة الواقع وماهيته، فيصف شكله ولونه وحجمه وكثافته ومكوناته، والثاني يحكم عليه بموافقته طبعه أو منافرته له.
هذه الصفات للعقل تمنع الإنسان من حق اتخاذ قرار مستقل عن خالقه، فلا يملك العقل إمكانية للحكم على الأشياء والأفعال من جهة أنها تؤخذ أم لا تؤخذ، يتعاطى معها أم لا يتعاطى، فليس أمر التعامل مع الشيء أو القيام بعمل مما يدرك العقل عاقبته ونتيجته، ولا ما فيه من خير أو شر، فكيف له أن يعلم إن كان فيه ثوابٌ من الله تعالى أو عقاب؟
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن
لمتابعة باقي حلقات السلسلة