العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة الرابعة عشرة
وفي الآخرة لقاء الله تعالى، ولكن كيف يلقاه الإنسان؟ (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) يلقاه بالإيمان النقي والعمل الصالح.
(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) فماذا يريد الإنسانُ غير الفلاح والفوز؟ والتقوى التي تعني اتقاء غضب الله تعالى، واتقاء عذابه يوم القيامة سبيلٌ لليسر والسهولة في الحياة الدنيا، وكذلك التوكل على الله تعالى، قال عز من قائل: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا). وفي السورة نفسها ثمرة من ثمار التقوى في الدنيا، يقول عز وجل: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).
والإيمان والعمل الصالح يجعل صاحبه من خير البرية، من خير الخلق، ويرضى عن الله تعالى في ما آتاه وأنعم عليه، وما قدّره له، ويرضى الله تعالى عنه، انظر إلى قول الله سبحانه في سورة البينة: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).
إن للبيئة التي يعيشها الإنسان دوراً كبيراً يعينه على الإيمان والعمل الصالح، وكذلك للعرف العام والرأي العام، فإن كان المجتمع إسلامياً بأفكاره ومفاهيمه ومشاعره وأنظمته كان الإنسانُ أقدرَ على الانضباط بحسب مقتضيات الإيمان والعمل الصالح، لأنه يجد كل ما حوله يلتزم الإيمان والعمل الصالح، وإن كانت البيئة المحيطة به لا تسير على هذا، فإنها توقع الإنسان فيها في العنت والمشقة حين التزامه بمقتضيات الإيمان والعمل الصالح، ذلك أنه يجد نفسه غريباً عن بيئته ومجتمعه، وخاصة في زماننا هذا وقد خلت مجتمعات بلاد المسلمين من الحكم بالإسلام، فإن المسلم المؤمن النقي التقي قليل الوجود، ويحسّ بالغربة بين أهله ومجتمعه، ويحتاج إلى جهد أكبر لكي يستمر ملتزماً بمقتضيات الإيمان والعمل الصالح، والاستمرار على التقوى. فالقابض على دينه في هذا الزمان كالقابض على الجمر.
ووجود البيئة على هذه الحالة تضيف عبئاً ثقيلاً على المؤمن النقي التقي، بأن عليه أن يعمل لتغيير هذا المجتمع، لينقله إلى أن يصبح بيئة إسلامية نقية، تقيم شرع الله تعالى، وتجعل التقوى أساساً لحياة الفرد والمجتمع، الحاكم والمحكوم، وتطبق شرع الله تعالى، وتقيم حدوده، فيتقوى كل فرد من الأفراد بإخوته في مجتمعه في استحضار الغاية البعيدة الكبرى من الأعمال، لتحصل الطمأنينة الدائمة لكل فرد من أفراد المجتمع.
إن من مقتضيات الإيمان والعمل الصالح الإحساسَ بالأمن، والطمأنينة والرضا الدائم، يقول سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ).
إن الإنسان الذي يحلُّ عقدته الكبرى حلاّ عقلياً صحيحاً ، ويسير بحسب ما يقتضيه هذا الحل، يجد الراحة ولو كان متعباً، والرضا ولو كان ما اعتراه مكروهاً، ويصبر مطمئناً على ما يصيبه، ولا يفرح بما أوتي من متاع الدنيا الزائل، بل إنه يشكر الله تعالى على ما أنعم عليه، ويحمده كما ينبغي لله أن يحمد، هذا الإنسان بهذه الصفات يملك نفساً مطمئنة، راضية، مرضياً عنها، وثوابه في الآخرة عظيم، إنه في جنة عالية في مقام عالٍ، عند مليك مقتدر: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي).
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن
لمتابعة باقي حلقات السلسلة