Take a fresh look at your lifestyle.

العقدة الكبرى والعقد الصغرى الحلقة السادسة عشرة

 

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

 

الحلقة السادسة عشرة

 

 

نواصل حديثنا في عقدة الغيب، وقد تحدثنا عن الأساس الأول، الذي هو التفريق بين عالم الغيب وعالم الشهادة.

 

أما من جهة الأساس الثاني، الذي هو كيفية التفكير عند الإنسان، فإن تفكير الإنسان محصور فيما يقع عليه حسه، لإن الإحساس بالواقع شرط وركن أساسي من أركان عملية التفكير، فإذا فقد هذا الشرط فقد التفكير، والجن من عالم الغيب، فهو واقع غير محسوس بالنسبة للإنسان، فلا يقع الحسّ عليه، فلا يمكن أن يفكر فيه من جهة حسه، بل يفكر فيه من جهة الخبر اليقيني الذي أخبرنا به الله سبحانه وتعالى عن وجودهم وأنواعهم وصفاتهم ومادة خلقهم. وما دام إحساس الإنسان لا يقع على الجن، فلا يمكن أن يراه، قال تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ) فهذا الخبر من الله تعالى تأكيد على حقيقة عدم وقوع الجن والشياطين تحت إحساس الإنسان، فلا تتأتى رؤيتهم, ولا سماع صوتهم، ولا لمسهم، ولا إدراك رائحتهم إن كان لهم رائحة.

 

ولذلك فإن الخطر الوحيد الآتي من قبل الجن والشياطين إنما هو خطر الوسوسة ومحاولات الإغواء والإضلال والإفساد، وهذه يتقيها الإنسان بإدراك واقعها أنها من وسوسة الشيطان، فلا يستجيب لها، ويتقي شرّها بالاستعاذة بالله سبحانه وتعالى، وبتلاوة المعوذتين، وغيرهما من الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وما يزعمونه من أن إنسان تلبّسه جنيٌّ أو جنيَّةٌ ما هو إلا من قبيل الأساطير، التي لا تثبت أمام البحث العقلي الصحيح، والبحث الشرعي الصحيح، والذي يجري عند الإنسان إنما هو خلل في الوظائف النفسية، تُسْهِمُ الخزعبلات والأساطير والأوهام في تعزيز هذه الفكرة الخاطئة، ويروون روايات يستدلون بها على هذا الزعم، فيقولون لقد تكلم على لسانه، وإن سألتهم عن الدليل قالوا: إن صوته قد اختلف، فيستنتجون أن شخصاً آخر يتكلم على لسانه، سيراً على نمط التفكير العجائزي الجاهلي، الذي يسير على نسبة أحداث إلى قوى خفية لأنه لا يرى سبباً عقلياً محسوساً مباشراً لهذا الحدث، فإن تحرّك الباب بتأثير هواء أو فرق ضغط جوي في البيت، تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم، ظانين وواهمين أن الجن والشياطين هم الذين قاموا بهذا.

 

وهذا من مظاهر الانحطاط الفكري، الذي لا يستند على قاعدة فكرية صحيحة، ولا يستخدم الطريقة العقلية في التفكير، فالأصل أن يتوجه عقل الإنسان ليبحث عن السبب الذي أدى إلى تحرك الباب، أو اختلال الوظائف النفسية عند المريض، ولا يعزوَها إلى قوى خفية وأرواح شريرة، فإن الله تعالى خلق الكون بكل ما فيه، وقدّر لكل شيء فيه خواصه، وما على الإنسان إلا أن يطلق العنان لقدراته للبحث في هذا الكون لكشف خواص الأشياء فيه، فينتفع منها، ويجتنب ضررها، فقانون السببية واحد من القوانين التي أقيم عليها هذا الكون، ولعل قانون نيوتن الأول يعبّر عن هذا: يظل الجسم على حالته من الحركة أو السكون ما لم تؤثر عليه قوة تغيّر من هذه الحالة، فلا بد من قوة مادية أثّرت على الباب فتحرك، كتيار هوائي، أو فرق ضغط بين غرف البيت، أو جاذبية لعدم توازن الباب، أو غير ذلك من الاحتمالات الممكنة. وحقيقة ما يزعمون أنه تلبسه جنيٌّ أو جنيّة أنه مرض نفسي، نتيجة صدمة أو موقف شديد التأثير أوقع صاحبه في خلل في الوظائف النفسية، فأطلق العنان للأوهام لكي تأخذ منه مأخذها، وتسيطر عليه، فتفقده صوابه.

 

ويقولون إن الأطباء لا يستطيعون أن يعرفوا هذا المرض أو نوعه أو علاجه، (أي التلبّس من الجن) علماً أن أعتى الأمراض، قديمها وحديثها توصل الطب إلى معرفة أسبابه وعلاجه، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا وقد أنزل معه دواء جهله منكم من جهله وعلمه منكم من علمه). إضافة إلى أن المبتلى بهذا الأمر يقول أشياء ويقوم بأفعال تحتاج إلى حكم شرعي، والأحكام الشرعية المنبثقة عن العقيدة الإسلامية تعالج أفعال الإنسان، وليس أفعال الجن، فلم يرد في النصوص الشرعية أحكام شرعية متعلقة بأفعال من تلبّسه جنيٌّ أو جنية، مع أن دين الله كامل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ  عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، فليس من المتصور أن يكون هناك فعل أو عمل أو شيء يتعلق بأفعال البشر إلا وله حكم أو محل حكم، لكن هذا الأمر الذي يذكرون، وهو التلبس، ليس له أحكام شرعية ولا محل حكم، فالشريعة كاملة، إذن لا بد أن يكون هناك تفسير آخر لما يصفونه بأنه تلبّس، والصواب أنه مرض نفسي، أو اختلال في الوظائف النفسية، يمكن علاجها في العيادة النفسية، وبقراءة القرآن.

 

وهناك عُقَدٌ أخرى متعلقةٌ بعقدةِ الغيب، كعقدة الخوفِ على الحياة، والخوف على الرزق، والخوف من المستقبل، والخوف من المجهول، والخوف من القضاء والقدر، وسنتاول كل واحدة منها في بحث مستقل بإذن الله تعالى.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد – الأردن

 


 

 

لمتابعة باقي حلقات السلسلة

 

اضغط هنا

 

OQdaKubra

 

 

 

 

 

 

 

al3uqdato-lkobraa-wal3oqad-assyghraa-16.pdf