العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة السابعة عشرة
خامساً: عقدة الذنب:
يعرفونها في كتب علم النفس على أنها: (شعور قوي بالذنب يتبع اقتراف فعل طوعاً أو قهراً يثير الشعور بالذنب ويصعب على الفرد التخلص من ذلك الشعور. ذاك الفعل غالباً ما يتعارض مع أخلاقيات ومعتقدات أو تعاليم الفرد الدينية. فمثل هذه العقدة تؤثر كثيراً على حياة الفرد لتكرار الشعور الشديد بالذنب عند اقترافه لأي عمل مشابه قد لا يكون بنفس الحجم. وتتكرر هذه المشاعر من وقت لآخر بدون أن يستطيع الشخص التخلص منها.)
وسواء كان الذنب الذي اقترفه الشخص طوعاً أو قهراً فإن العقيدة الإسلامية قد حلّت هذه العقدة، فإن الله سبحانه وتعالى هو التواب، وهو الغفور، بل هو الغفار، يقبل توبة عبده إن تاب إليه واستغفره، بل إن الوقوع في الخطأ والوقوع في الذنب هو صفة لازمة للبشر بوصفهم بشراً، ذلك أن هناك أسباباً عديدة تجعل الإنسان يقع في الخطأ أو المعصية أو الذنب، كالنسيان مثلاً، قال سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، ونسيانُ آدمَ عليه السلام أدى به إلى ظلم نفسه، قال تعالى: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فاعترف آدم وزوجه بخطيئتهما، وسألا اللهَ تعالى المغفرة والرحمة، وقد أخبرنا الله سبحانه أن معصيتهما كانت بسبب إغواء الشيطان لهما ووسوسته: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)، وأخبرنا سبحانه أنه عز وجل عَلَمَ آدمَ التوبة فتاب وقبل الله سبحانه التواب الرحيم توبته: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وهذا شأن ربنا سبحانه وتعالى معنا، هذا حديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم) وورد في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: من عمل حسنة، فله عشر أمثالها. وأزيد، ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها، أو أغفر، ومن عمل قراب الأرض خطيئة، ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة، ومن اقترب إلي شبرا، اقتربت إليه ذراعا، ومن اقترب إلي ذراعا، اقتربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة).
وقال الله سبحانه وتعالى في سورة الزمر: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
فالله تعالى يقبل توبةَ عبدِهِ الآيبِ إليه، إذا استغفره وتاب إليه، وندمَ على معصيته، ولعل ما يحسه العاصي أو المذنب من الندم هو ما يصفونه بعقدة الذنب، فإن كان كذلك فهو أمرٌ مطلوب ومحمودٌ، ولكن لا ينبغي للمذنب التائب أن ييأس من رحمة اللهِ وقبوله توبته، فلا يبقى للذنبِ المستغفَر منه تأثير على صاحبه إلا بقدر ما يزيدُه قرباً من الله تعالى.
وورد في الحديث الصحيح عن توبة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأن الله تعالى قد قبلَ توبته: (إن عبدا قتل تسعة وتسعين نفسا، ثم عرضت له التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدل على رجل، وفي رواية: راهب، فأتاه، فقال: إني قتلت تسعة وتسعين نفسا، فهل لي من توبة؟ قال: بعد قتل تسعة وتسعين نفسا؟ قال: فانتضى سيفه فقتله به، فأكمل به مائة، ثم عرضت له التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدل على رجل [عالم]، فأتاه فقال: إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ أخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى القرية الصالحة قرية كذا وكذا، [فإن بها أناسا يعبدون الله]، فاعبد ربك [معهم] فيها، [ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء]، قال: فخرج إلى القرية الصالحة، فعرض له أجله في [بعض] الطريق، قال: فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قال: فقال إبليس: أنا أولى به، إنه لم يعصني ساعة قط. قال: فقالت ملائكة الرحمة: إنه خرج تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط – فبعث الله عز وجل ملكا [في صورة آدمي] فاختصموا إليه- قال: فقال: انظروا إلى أي القريتين كان أقرب إليه فألحقوه بأهلها، [فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي]، [فقاسوه، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد [بشبر]، فقبضته ملائكة الرحمة [فغفر له])
وورد في الحديث الصحيح: (أن الله أشد فرحا بتوبة عبده التائب من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة، عليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فقال تحت شجرة، فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته).
تبقى مسألة إذا فعل الذنب أو المعصية مكرهاً أو قهراً، دون أن يملك لها رداً أو دفعاً، ففي هذه الحالة ينطبق عليها واقع القضاء والقدر، فإنه مما كتبَه الله سبحانه وتعالى على عبدِهِ لحكمةٍ بالغةٍ أرادها الله سبحانه وتعالى، والموقف هنا هو موقف المؤمنِ بقضاء الله تعالى وقدَرِه، فيستحق الأجر والثواب على صبره على هذا الابتلاء، ويسأل الله تعالى خيره، وأن يقيَه شرّه، وما دام من الله سبحانه وتعالى، ولا يد للمرء نفسِهِ فيه فإنه لا ينبغي له أن يلومَ نفسَهُ، فإن اللوم يقع على المختار للفعل بكامل إرادته، فإن وقع الفعل مخالفاً للأحكام الشرعية، فإن فاعله يستحق اللوم، إلا أن يتوبَ مما فعل مختاراً.
فعقيدة القضاء والقدر التي تقتضي التسليم بما يقع من الإنسان أو عليه رغماً عنه، ولا يملك له دفعاً ولا ردّا، فلا يلومنَّ أحدٌ نفسه على عمل وقع منه أو عليه رغماً عنه.
ومن أسباب الوقوع في الذنب الغفلة، فقد يغفل المرء عن استحضار المفهوم الصحيح المصاحب لدافع من حاجة عضوية أو مظهر غريزي، فيغلب عليه الدافع، فيرتكب الذنب أو المعصية، ولا ينتبه إلا بعد فوات الأوان، والوقوع في الذنب، وهنا يقتضي على العاقل أن يعوّد نفسه على التفكّر في كل ما يعتزم القيام به، بل عليه أن يتدبّر فيه، والتدبّر يعني التفكيرَ مع النظرِ في العواقبِ، فينظر المرء في عاقبة العمل الذي سيقوم به، أو الإشباع الذي سيلجأ إليه لإشباع الدافع السلوكي، ويربط ذلك بمقياس السلوك لديه، فمقياس السلوك لدى المسلم، حامل العقيدة الإسلامية هو الحكم الشرعي، فلا بد من استحضار الحكم الشرعي للعمل قبل القيام به، والسير بالعمل بحسب الحكم الشرعي، مع ربطه بالغاية التي يسيّر فيها سلوكه على هذه الهيئة أو تلك الكيفية، الغاية التي هي نيل رضوان الله تعالى، فيسيّر عملَه بحسب الحكم الشرعيّ محققاً رضوان الله تعالى.
وبالتدبر يدركُ أنه إن سيّر عمله بحسب الحكم الشرعي أنه سيفوز في الآخرة، وينجو من العقاب المستحق على المعصية، فيكون قد ربط عمله بما بعد الحياة الدنيا، وتخلص من عقدة (البعدية، أو البعدينية)، ويكون قد تخلص من عقدة الذنب.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن
لمتابعة باقي حلقات السلسلة