العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة الثانية والعشرون
ثامناً:عقدة الخوف من القضاء والقدر
يخاف الناس من المستقبل كثيراً، وهو كما ذكرنا في بحث عقدة الغيب أمرٌ فطريٌّ غريزيٌّ، بدافع من غريزة البقاء، فيخشى من وجود أيِّ شيءٍ مستقبليٍّ يهدد بقاءه، أو يُنْقِصُهُ، أو ينغّصُ عليه عيشَهُ، أو يفقده بعض القدرات والخواص، أو بعض الإمكانات التي وهبها الله سبحانه وتعالى له، حتى إن الخوفَ على البقاء عند الإنسان لا يتوقفُ على بقائه هو وحدَه، بل يتعداه ليخافَ على بقاء نوعِه، فيخافُ على أولادِهِ، ويحسب الإنسانُ أنه بجهده وتفكيره وتدبيره يحافظ على بقائه، وعلى بقاء نوعه، وتجدُ أيضاً كثيراً من الناس من يدّخر من ماله لغير حاجة، وإن سألته كان جوابه: خوفاً من عثراتِ الزمان، أو من عاديات الزمن، فلا يدري الإنسانُ ماذا يصيبه في مستقبل الأيام.
ويبقى هذا الهاجس يطاردُ صاحبَ هذا التفكير، ومن الواضحِ أن لديه عقدةَ الخوفِ من البلاء والمصائبِ والطوارئِ … وغيرِها من التعبيرات التي يستخدمها الناس، حتى جرتْ لدى كثيرٍ منهم مجرى الأمثال، يرددونها في كل مناسبة.
ومن الواضح كذلكَ أن صاحبَ هذا التفكيرِ لم يَحُلَّ العقدةَ الكبرى عنده، أو توقَّفَ عند حَلِّها ولم يقمْ بما يستلزِمُ لأخذِ حلِّ باقي العقدِ من حلِّ العقدة الكبرى، العقيدة الإسلامية.
وقد تولّت العقيدةُ الإسلامية حلَّ هذه العقدةِ عند معتنقِها، بحيث جعلته يطمئنُّ إلى مستقبلِهِ كما يطمئنُّ إلى حاضرِهِ وأكثرَ، فأعلمَتْهُ أولاً أنّه لا تقع أيةُ مصيبةٍ في الأرضِ ولا في نفس الإنسان إلا بإذن الله: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)
فكلُّ مصيبة تقعُ على الإنسان أو حولَه إنما هي في علمِ اللهِ تعالى وبإرادتِه من قبلِ أنْ تقعَ، وهذه من أيسرِ الأمور على الله تعالى، وكل شيءٍ عليه –سبحانه- يسير، والنتيجةُ أنّ على الإنسانِ ألاَّ يأسَى على شيءٍ فاته وكانَ يتوقعُ حصولَه عليه، وألاّ يفرحَ بشيءٍ أصابَه، أو أنعمَ اللهُ به عليه.
ويقولُ سبحانَه وتعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فهنا حصرٌ لكلِّ ما يقعُ على الإنسانِ أو حولَه، أنّه بإذن الله وإرادتِهِ وتقديرِهِ، وعلى المؤمنِ أن يؤمنَ بهذا ويسلّمَ بما يُقضَى عليه، والله تعالى يهدي قلوبَ عبادِهِ للرضا والتسليم والطمأنينة بشرطِ الإيمان، وتخبرُ الآية عن علمِ الله المطلق بكل شيءٍ، فهو خالقُ كلِّ شيء، ومقدّر كلِّ شيء.
ونظرة عميقة مستنيرة لأفعال الإنسان تُرينا أن أفعاله تقع في دائرتين:
الأولى: دائرة يسيطر عليها، فتقع أفعالُه فيها بمحض اختيارِه وإرادته، فهو يقوم ويقعد، وينام ويصحو، ويأكل ويشرب، ويختار ملابسه، ويخرجُ من بيتِه ويعودُ إليه، ويعمل عملاً ليكسب قوت يومه، فهو يحاسَبُ على فعل يقعُ منه في هذه الدائرة، ويتحمل نتائج أفعالِه فيها.
والثانية: دائرة هي تسيطر عليه، فتقعُ الأفعالُ ضمنَ هذه الدائرة من الإنسانِ أو عليه رغماً عنه، ولا يملك لها دفعاً ولا ردّاً، ولا يستطيع السيطرةَ عليها ولا على نتائجها، فهو في هذه الحالة لا يحاسب على هذه الأفعال، فلا يثابُ عليها، ولا يعاقبُ عليها. يقول سبحانه وتعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، وقال سبحانه وتعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) فهو سبحانه يبتلي عبادَه بما شاءَ من أنواع البلاءِ، لحكمةٍ يعلمُها.
وقد أخبرنا الله سبحانَه وتعالى أن ما يقعُ في هذه الدائرة، أي الثانية، تكون فيها تلك الأفعال:
– عقوبةً، أي تقعُ الأفعالُ في هذه الدائرةِ على الإنسانِ عقوبةً له على فعلٍ فعله، ومن أرادَ اللهُ سبحانه وتعالى به الخيرَ عجّلَ له في العقوبة، قال سبحانه وتعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)، وكذلك روى ابن ماجه وأحمد من حديث ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الرجلَ لَيُحْرَمُ الرزقَ بخطيئةٍ يَعْمَلُهَا)، فإن بعضاً مما يصيبُ الإنسانُ من البلاءِ رغماً عنه، إنما هو عقوبةٌ على بعضِ ما فعله، والله تعالى يعفو عن كثير مما يفعله الإنسان، فهو المنعم المتفضل.
– والبلاء تارة يكون لمحو السيئات، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما يُصيبُ المسلمَ من هَمٍّ ولا حَزَنٍ ولا وَصَبٍ ولا نَصَبٍ ولا أذًى؛ حتى الشوكةُ يُشَاكُهَا إلا كَفَّرَ اللهُ بَهَا مِنْ خَطَايَاهُ) رواه مسلم. وروى مسلمٌ أيضاً عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَثَلُ المؤمنِ كَمَثَلِ الزرعِ. لا تزال الريحُ تُمِيْلُهُ. ولا يزال المؤمنُ يُصِيبُهُ البلاءُ)، ولكنّ المؤمنَ مع استمرارِ وقوعِ البلاءِ به يبقى ثابتاً لا يتزحزح من مكانِه، وإن أمالتْه الريحُ، وذلك بسبب إيمانه.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن
لمتابعة باقي حلقات السلسلة