العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة السادسة والعشرون
عاشراً: عقدة النقص، (النقص العام) أو الشعور بالدونية (النقص الخاص)
ونبدأ بجانبها العام، لأن حلَّ العقدةِ من جانبها العام يحلُّها من جانبها الخاص، والجانب العام لعقدة النقص آتٍ مما فُطِرَ عليه الإنسان من الإحساس بالمحدودية في كل شيء، والعجز النسبي في كلِّ شيء، والنقص النسبيِّ في كل شيء، والاحتياج، فهذه السمات الأربع في الإنسان تجعلُهُ يُحِسُّ بالنقص، ويندفع تلقائياً وبغير شعور لأن يُخْفِيَ هذا النقص، ولكنه بإخفائه يخفيه عن غيرِهِ، ولا يُخْفيه عن نفسِهِ، فالإحساس يبقى موجوداً، لأنه فطريٌّ في كل إنسان، وهو مظهر من مظاهر غريزة التديّن عند كل واحدٍ من البشر.
والمفروض في هذا الإحساس، الإحساس بالنقص أن يدفعَ الإنسانَ للجوء إلى خالقِهِ سبحانه، الذي لا يعتريه النقص، ولا العجز، ولا المحدوديةُ، ولا الاحتياج، لأنّ الإنسانَ بما أوتي من قدرات وخواص يحسُّ عجزَهُ عن تغطية نقصه، وسدِّ حاجاته بدون خالقِهِ سبحانه، فهو الذي خلقه من العدم، وسوّاه في أحسن تقويم، وهداه لما يصلحه، وهو الذي قدّرَ له رزقه، وبغيرِهِ سبحانه لا يستطيع الإنسانُ تحقيقَ شيءٍ، وانظر إلى مئات الآياتِ التي يمنُّ الله سبحانه فيها على عبادِهِ بما سَخَّرَه لهم مما حولهم من السموات والأرض، فمنها يأكلون، ومنها يشربون، ومنها يلبسون، وعليها يمشون ويقعدون وينامون، ومنها يستخرجون ما يحتاجونه من موادَّ للصناعة، وحجارةٍ للبناء، ومنها تأكل أنعامهم وعليها تعيش، فلا بدّ أن يدركَ الإنسانُ أنه مهما أوتي من عقل وفكر وتدبير وتفكير وتخطيط، فإنه مقيَّدٌ في هذه الحياة بسننِ الكون وقوانينه، ومقيَّدٌ بخواصه وقدراته المحدودة، لا يستطيع تجاوزها، فالحلُّ الصحيحُ، هو حلُّ العقدة الكبرى التي تربط الإنسانَ بخالقِهِ، ليعقِدَ معه الصلات التي يقتضيها حلُّ العقدة الكبرى: صلة الخلق والإيجاد من العدم، وصلة البعث والنشور، والثواب والعقاب، والأوامر والنواهي، ويحمل ما اقتضاه هذا الحل من مفاهيم تسدُّ نقصه وعجزَه ومحدوديتَه واحتياجَه.
وأهمُّ هذه المفاهيم التي تتعلَّقُ تعلُّقاً شديداً بعقدة النقصِ عند الإنسان مفهومُ التوكُّل على الله، به يَسُدُّ الإنسانُ نقصَهُ، ولكن كيف ذلك؟
التوكُّلُ في اللغة يعني الاعتماد على الغير، أما التوكل على الله فهو الاعتماد الكليُّ على الله تعالى، واليقين التامُّ بأنَّ الله سبحانه هو وحده الخالق الرازق الهادي مدبرُ شؤون الكون، صغيرِها وكبيرِها، وهو تعالى خالق الكون والإنسان، وخالقٌ فيهما الخواص، ومقدّرٌ فيهما الأسباب، فكل شيء بيدِ الله تعالى، وأنه لا يعمل قانونٌ في الكون، ولا يمضي سببٌ إلى نتيجته إلا بإذن الله تعالى، ولذلك على الإنسان أن يوقنَ أنه لا تتحققُ نتيجةٌ، أيةُ نتيجةٍ، صغرت أم كبرت، لا تتحققُ إلا بإرادةِ اللهِ، وبعلمِهِ، وبإذنِهِ، فعنده وحده يُطلَبُ تحقيقُ النتائج، ويوقنُ الإنسانُ أنَّ ما حققه ويحققه ليس بإرادته وحده، فلو شاء الله لما حققَ أحدٌ شيئاً، ولا أنتجَ أيُّ سببٍ أيةَ نتيجة، ولكن الله سبحانه شاء ذلك وأراده، إذن ما يتمُّ تحقيقُه على أيدينا إنما هو بإذن الله وعلمِهِ وإرادتِه.
والإنسانُ ضعيفٌ بطبعِهِ، يقول الله سبحانَه وتعالى: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا)، ضعيفٌ بفطرتِهِ التي فُطِرَ عليها، ولا يسدُّ ضعفَه هذا إلا خالقُهُ سبحانه، فهو ضعيف بذاته ونفسه، لكنه قويٌّ بالله. عاجزٌ بطبعه لكنه قادرٌ بالله، فقيرٌ بطبعه لكنه مستغنٍ بالله، ناقصٌ بطبعِه يكتملُ بالله، محدودٌ بطبعِهِ قادرٌ بالله.
هنا تأتي قيمةُ التوكل على الله، وقد رأينا ذلك في فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بتوكلها على الله، ورأينا الضعيف صارَ قوياً بالله، والفقير صار غنياً بالله.
وخواصُّ الإنسانِ وقدراتُهُ المجبولُ عليها هي من باب القضاء والقدر، أيْ مما وقعَ على الإنسانِ ووجِدَ الإنسانُ عليه رغماً عنه، ولا يملك له تغييراً، أو ردّاً، فهو مفطور أن يأكل، ولا يستطيع مخالفة ذلك، ومفطور أن ينام، ومفطور وفيه قابلية المرض والعجز والهرم، ولا يستطيع مخالفة ذلك، ومقيّدٌ قدراته كلها، فهو يمشي لحد معين، ويقف لحد معين، ويقعد لحد معين، ويأكل لحد معين، وهكذا في كل شيء من خواصه وقدراته، ولا يستطيع الإنسان بنفسه أن يغطيّ أية حاجة من حاجاته، ولا يستطيع أن يسدّ عجزَه، أو احتياجه، ولا يستطيع أن يتجاوز محدوديتَه.
ولكنه بحل العقدة الكبرى الحلَّ الصحيح، بعقيدة الإسلام، يرضى أولاً لحاله الذي هو عليه، ويسلّمُ راضياً مطمئناً على أن هذا الحال هو الخير له، فلا يشكّلُ له عقدة.
وكذلك بمفهوم التوكّل يستطيع تجاوزَ قدراتِه، فيحقق بالتوكل على الله والاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه، والصبر على ذلك، والاحتساب عند الله، يحقق بكل ذلك ما لا يحققه غيره، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن
لمتابعة باقي حلقات السلسلة