العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة الرابعة والثلاثون
نواصل حديثنا في عقدة مستوى الحياة:
وقد أنبأنا اللهُ سبحانه وتعالى عما هو خير من ذلك للذين اتقوا، فبعدما ذكر أن الناس زُيِّنَ لهم حب الشهوات من النساء والبنين والذهب والفضة والخيل والأنعام والحرث ذكر أن كلَّ ذلك إنما هو متاعُ الحياةِ الدنيا، وهو زائل، وينبئنا عما هو خير من ذلك: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، والخيرُ من ذلك للمتقين هو الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، والخلدُ المقيمُ في النعيم، مع الأزواجِ المطهرة، وفوقَ ذلك كله الرضوان من الله تعالى.
وأمرنا الله سبحانَه وتعالى أن نطلبَ الرزقَ ممن يملكُه، وهو اللهُ الرزاقُ ذو القوةِ المتينُ، وأنَّ طلبَه ليس بالعقل والتدبير والتخطيط، ولا بالتطلعِ إلى ما بين أيدي الناس منه، ولا بالتوجه إلى غير الله سبحانه، يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فهو وحدَه المستحقُّ أن يُطلَبَ منه الرزقُ، وهو وحدَه المستحقُّ للعبادةِ، وهو وحدَه المستحقُّ للشكر، أفلا يكفي دليلاً على هذا أن الناسَ كلَّهم راجعونَ إليه بعد حين؟
إن هذه المفاهيمَ الصحيحةَ، وغيرَها مما جاءت به العقيدةُ الإسلاميةُ تُوجِدُ القناعةَ عندَ معتقدها، وتُوَلِّدُ عندَه الرضا بما قُسِمَ له، والطمأنينةَ أنَّ كلَّ رزقِهِ المقسومِ له سيأتيه بإذن اللهِ، فلا يفرضُ شروطاً للحياةِ التي يحبُّ أن يعيشَها، ولا يشترطُ على اللهِ تعالى كيف يرزقُه، بل إنه تتولّدُ لديه القناعةُ التامةُ والرضا، وينطلقُ في حياتِهِ بما آتاه الله سبحانه وتعالى إياه ينطلقُ لتحقيق عظائم الأمور ومعاليها، ولا يلتفت إلى حقيرِ الدنيا وسفسافِها، ولا يقعُ متاعُ الدنيا الزائلُ في قلبِهِ أدنى موقعٍ، ولا ينشغلُ بهذا المتاعِ يصلحُه ويجدّده ويبدّله، ظانّا أن هذا يزيد من هيبته عند الناس، ويرفعُ من مكانتِه وقدرِه، فإن حاجةَ الإنسانِ من الدنيا لا تتجاوزُ رغيفاً يأتيه كل يومٍ، ومن خلقَ السمواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ ولم يعيَ بخلقِهِنَّ لا يُعْييهِ رغيفٌ يسوقُه كل يومٍ لكل واحدٍ من عبيدِه.
إن السعيّ الحقيقيَّ لمستوىً حقيقيٍّ عالٍ من الحياة إنما هو السعيُ للآخرة، للفوز فيها وبما فيها، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا)، وإنّ ما جعلَه اللهُ سبحانَه من زينةٍ على الأرضِ إنما ليبتلينا أيّنا أحسنُ عملاً، قال سبحانه: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، والأحسنُ عملاً هو الأحسنُ جزاءً يوم القيامة، وهو الأعلى في مستوى الحياة هناك، ولو اتسع المجال لذكرنا نماذج من علوِّ المراتبِ في الآخرة، مما يستحق أن يتنافسَ فيه الناسُ، ويقدّموا في سبيلِه كل ما يملكون، وكل ما يستطيعون.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن