العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة الحادية والأربعون
ثامن عشرَ:عقدة الشح
الشُّحُّ مظهرٌ من مظاهرِ غريزةِ البقاءِ، يتكوّنُ من حرصٍ على فواتِ خيرِ، ومن خروجِهِ من يدِ صاحبِه، ولذلك فهو عملٌ قلبيٌّ، ينتجُ عنه سلوكٌ ذميمٌ، وفعلٌ قبيحٌ وهو البخلُ. فالشحُّ حرصٌ مع بخلٍ، قال الله سبحانه وتعالى: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) أي: ملازمة الشح للنفوس البشرية حتى كأنه حاضر لديها، ذلك أنّه جِبِلِّيٌ مفطورٌ عليه الإنسانُ. وأصل الشحِّ في كلام العرب: البخلُ بالمالِ، وفي الحديث الذي رواه البخاريُّ عن أبي هريرة رضيَ الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى)، ويطلق على حرص النفس على الحقوق وقلة التسامح فيها، ومنه المشاحة، وعكسه السماحة في الأمرين.
يقولُ اللهُ سبحانَه وتعالى: (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا)، فهذا وصفٌ دقيقٌ من اللهِ سبحانَه وتعالى لهذا الإنسانِ الذي خلقَه، ويعلمُ ماذا ركّبَ فيه، ممسكٌ خشيةَ الإنفاقِ، وشديدُ التقتيرِ في النفقةِ، ولذلك فإن الإنسانَ المجرّدَ من المفاهيم الصحيحةَ تكونُ هذه حاله، ولا تأتي المفاهيم الصحيحةُ إلا من الحلِّ الصحيحِ للعقدةِ الكبرى، بالعقيدةِ الإسلاميةِ تحديداً، ولا غير.
والشحيحُ يندفعُ في شُحِّه من غريزةِ البقاء، وكذلك المنفقُ يندفعُ في إنفاقِه من غريزةِ البقاء، فالشحُّ غالباً مذمومٌ، والإنفاقُ الموافق للشرعِ ممدوح.
والشحُّ صفةٌ مذمومةٌ، جاءت العقيدةُ الإسلاميةُ على تخليص نفوسِ أتباعها منها، فقد مدحَ اللهُ سبحانه وتعالى الأنصارَ بأنهم يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، وعقب بعد هذا المدح بمدح من وُقيَ شُحَّ نفسِه، فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وذمَّ المنافقين بهذه الصفة، صفةِ الشُّحّ فقال سبحانه وتعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ)، وقال أيضاً سبحانه وتعالى في الآية نفسها: (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ).
والشُّحُّ مهلكٌ لصاحبِه، فهو يجعلُه دائمَ الحرصِ على تحصيلِ الخير، ودائمَ الحرصِ على المحافظة في ما بين يديه، ويجعلُه دائمَ الغيظِ إن فاته ما كان ينتظره من خيرٍ، ودائمَ الحسرةِ إن فَلَت من يديه ما كان حريصاً على بقائه فيهما، فهو كثير الأسى والقلق على ما يفوتُه ولا يستطيع تحصيلَه، وكثير الأسى والقلق على ما لا يستطيع المحافظةَ عليه من مالٍ أو غيرِه. فيقع في عقدة الشحّ وما ينتجُ عنها من قلقٍ وأسىً وحسرةٍ.
وقد أخبرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال في الحديث الذي رواه مسلمٌ عن جابرِ بنِ عبد الله: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) فقد دفعَ الشحُّ الأقوامَ السابقينَ لأن يقتتلوا في سبيل الحرصِ على المالِ، فسفكوا دماءَهم، واستحلّوا محارمَهم.
وأخبرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن كثرةَ الشحِّ من علامات آخرِ الزمان، فقد روى مسلمٌ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (يتقارب الزمان، ويقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج) قالوا: وما الهرج؟ قال (القتل).
ومن ارتضى الحلَّ الصحيحَ للعقدةِ الكبرى بالعقيدة الإسلامية سعى جاهداً للتخلّص من سمةِ الشَّحِّ، واجتنبَ البخلَ، وأنفقَ مما آتاه الله بحسب ما أمرَ الله تعالى، فلا يقصّرُ في نفقةٍ واجبةٍ، ولا يتردد في فعلِ مندوبٍ، من الصدقات المندوبة، ويوسّع على نفسِهِ وعلى أهلِ بيتِه ما دامَ قادراً.
كما أنّه لا يأسى على خير فاته، وقد كان يتوقعُ مجيئَه، لإدراكِه أن ما أخطأه لم يكن ليصيبَه، وما أصابه لم يكن ليخطئَه.
والإيمان الصحيحُ الصادقُ يطردُ من قلبِ صاحبِه أيَّ ميلٍ للشَّحِّ، ونجدُ فروعاً من الإيمانِ خاصّةً بتهذيب دوافع الإنسان المختلفة، ومنها دافع الشحّ والحرص وما ينتج عنهما من بخلٍ، فالمؤمن يوقنُ أنّ اللهَ سبحانه هو الرزاقُ، وأنه قسم لكل عبدٍ رزقَه، فلا يأسى على شيءٍ فاته، ولا يفرحُ بشيءٍ أوتيَه، روى ابنُ جريرٍ الطبريُّ عن أبي هريرةَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً).
وقد قالَ الله سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فما فاته من رزقٍ لم يكن مقسوماً له فلنْ يأتيَه، وما أتاه فهو المقسومُ له، والله تعالى هو الذي قسّمَ الرزقَ بينَ عبادِه، فوسّع على بعضهم لحكمةٍ أرادها، وضيّقَ على آخرينَ لحكمةٍ أرادها. وأخبرنا سبحانَه أن يُخْلِفُ على من أنفقَ، وهو سبحانه خيرُ الرازقين.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن