العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة الثانية والأربعون
وقد بشّرَ الله سبحانَه وتعالى المنفقَ بالإخلافِ والتعويض عليه، وبشَّر الممسكَ الشحيحَ بالإتلاف، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خَلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
وعليه فإن الشحيحَ ممقوت إلى نفسِه بكثرةِ حسرتِه وأساه، وممقوتٌ من الناسِ بتقصيرِه في الحقوق التي عليه بسبب شُحِّه، وممقوتُ من الله تعالى، ومن رسولِه صلى الله عليه وسلم. روى مسلمٌ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)
والمنفقُ محبوبٌ إلى نفسِهِ بطاعتِه لله سبحانَه وطمأنينته إلى رزقه، ورضاه وقناعتِه بما قُسِمَ له، فلم يفتْهُ ما هو مقسومٌ له، ولم يأتِه ما لم يُقسَمْ له، ومحبوبٌ إلى الناس بقيامِه بواجباته في النفقات الواجبة عليه، بل المندوبةِ أيضاً، وينتفعُ مما رزقه الله بتوسعته على نفسِهِ وعلى أهلِه، فقد وردَ في الحديثِ الصحيحِ عن عائشةَ رضي الله عنها قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، والمنفقُ محبوبٌ إلى الله تعالى لأنّ الله مدحَ المنفقين على كافّة أحوالهم وأوقاتهم، ما دام الإنفاق ضمنَ الأحكامِ الشرعية المنبثقة عن الحل الصحيح للعقدة الكبرى، فَتُحَلُّ لديهم عقدةٌ من العقد الصغرى بحلِّ العقدةِ الكبرى.
فكيفَ يخشى الفقرَ من ارتضى الحلَّ الصحيحَ للعقدةِ الكبرى بالعقيدةِ الإسلامية؟ كيف يخشى الفقرَ وهو مؤمنٌ أن خزائنَ السموات والأرض بيد الله سبحانه، وأنه كغيرِهِ من مخلوقاتِ الله تعالى رزقُه على الله سبحانه؟ (وَمَا مِن دَابّةٍ في الأرضِ إلا ّعَلَى اللهِ رِزْقُهَا).
روى المنذريّ عن قيسِ بنِ سلعٍ الأنصاري أن إخوته شَكَوْهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنه يُبَذِّرُ مالَه ويَنْبَسِطُ فيه، قلت: يا رسول الله، آخذ نصيبي من الثمرة فأنفقه في سبيل الله وعلى من صحبني، فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صدرَهُ وقال: (أَنْفِقْ يُنْفِقِ اللهُ عليك) ثلاث مرات، فلما كان بعد ذلك خرجت في سبيل الله ومعي راحلة وأنا أكثرُ أهلِ بيتي اليومَ وأيسرُهُ.
والمواقف والأمثلة في الحياة وفي التاريخ كثيرة، والأدلة الشرعية في الكتاب والسنة كثيرة، وسيرةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حافلةٌ بمثل هذه المواقف التي تعبّر عن الحلِّ الصحيحِ لعقدةِ الشحِّ، وكذلك في سيرة الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين.
فالحلُّ الصحيحُ هو التخلّصُ من هذه الصفة القبيحةِ، والتمتع بصفة الإنفاق وميزة الكرمِ، وربطُ الرزقِ بصاحبه الحقيقي وهو الله تعالى، والإنفاق امتثالاً لأمره، ليُخْلِفَ على المنفقِ خيراً، ويملأ نفسَه رضاً، وقلبَه طمأنينة.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن