كيف نبني وكيف نهدم – الحلقة السابعة – في ذم الكسل
الكسل…. كالْجُرثومَةِ القاتِلَةِ والداءِ الْمُميتِ يَمْنَعُ الشَّخصِيةَ مِنْ أنْ تَرْتَقِيَ ويُعَرْقِلَ ارتفاعَها مِنْ عالٍ إلى أعلى، والكسلُ هُوَ التَّثاقُلُ عمَّا لا يَنْبَغي التَّثاقُلُ عنهُ مِنَ الأمورِ في حياةِ الإنسان. ولَمَّا كانَ المسلمُ يعيشُ حياة من طراز مميز و فريد حدَّدَهُ لَهُ اللهُ تعالى، كانَ لا بُدَ لَهُ مِنْ أنْ يَتَصَرَّفَ على هذا الأساسِ. فالأحكامُ الشَّرعِيَةُ أحكامٌ تَشْمَلُ مَناحِيَ حياةِ الإنسانِ جميعها ، فَهِيَ السبيلُ إلى طاعَةِ اللهِ تَعالى وإرضائِهِ عزَّ وجَلَّ وهِيَ السبيلُ إلى دُخولِ الْجَنَّةِ وهِيَ السَّبيلُ إلى اجتِنابِ النَّارِ. فَمَنْ يَعي ويُدرِكُ ذلكَ جَيِّداً يعلَمُ أنَّ طاعةَ هذهِ الأحكامِ الشرعيةِ لا يَنبغي أنْ نَتَكاسَلَ عَنْها لِما فيها مِنَ النَّجاةِ والخيرِ الكثيرِ. لذا فإنَّ الكسل بهذا المعنى حرامُ ولا يجوزُ. فإذا كانَ هذا هُوَ حُكْمُ الشَّرعِ في الكسلِ فلِماذا يَتَكاسَلُ ويَتهاوَنُ الإنسانُ فَيَقَعُ في الحرام ؟ هل هذا الكسلُ غريزةٌ في الإنسانِ؟ وما هِيَ أسبابُهُ ؟ ولِماذا نَجِدُ نفسَ الإنسانِ يَنْشَطُ نَشاطاً مَلمُوساً في القيامِ بِأعمالٍ لَمْ يَفْرِضْها اللهُ تعالى عليهِ بينما يَتكاسَلُ عنِ القيامِ بفرضٍ ؟ فَالكسلُ إخوتي أخواتي هو فِعلا آفةُ العصر. وهُو مَظهَرٌ مِنْ مَظاهِرِ غريزَةِ البَقاءِ فالإنسانُ يَميلُ إلى الراحةِ، وإنْ تُرِكَ هذا الميلُ بِدونِ معالَجَتِهِ بالعقلِيَةِ وضَبْطِهِ، تَكُونُ نَتائِجُهُ وَخيمَةً ، فَيكونُ الإنسانُ أشبَهَ بالْمُستيقِظِ النَّائِمِ أوْ بالحي الْمَيِتِ، لا يتحَرَّكُ ولا يُؤثِرُ ولا يُغَيِّرُ، بلْ يَكُونُ مُتكاسِلا لِدرجَةِ الْجُمودِ حتى يغوصَ أكثرَ في حالة فُقدانِ التّحَكُمِ والسّيطَرَةِ على نَفْسِهِ، ويَكُونُ مُتناقِضاً في سُلُوكِهِ ، تناقض غريب عجيب . وذلكَ سَبَبُهُ في الأساسِ كَسَلُ المسلِمِ عَن إعمالِ عَقلِهِ في التَّفكُّرِ والتَّدَبُّرِ والنَّظَرِ في آلاءِ اللهِ عز وجل ، مِمَّا يُؤدي إلى خَلَلٍ في فَهْمِ العقيدَةِ الإسلامِيةِ. فَيجبُ أنْ نَبنِيَ ضرورةَ تَكَبُّدِ عناءِ التَفكيرِ العميقِ والْمُستَنيرِ في تَفاصيلِ هذهِ الحياةِ والإنسانِ والكَوْنِ، وإلا هذا الكسل يَترُكُ الإنسانَ مُتَخَبِطاً ومُتَرَدِداً في حياتِهِ، غيرَ حاسمٍ وضْعَهُ بالنِّسبَةِ للحقِّ ولِلباطِلِ، فيكونُ إذا الإنسانُ مُنعَزِلاً عنْ واقِعِهِ ويَعيشُ في عالَمٍ مِنَ اختراعِهِ، ويَدخُلُ في كثيرٍ مِنَ الْمَتاهات. فَلا يُدركُ القَضيةَ الْمَصيرِيةَ في حياتِهِ، ولا يَتَخِذُ مَوقِفاً مُهِماً ولا يكونُ مُشارِكاً فَعَّالاً ، والْمُشكِلَةُ ليستْ فيهِ فقطْ بلْ في الْمُجتمَعِ كلِّه الذي يُحِبُ الراحةَ، ويَعيشُ تَحتَ نِظامِ حُكْمٍ يُشجِّعُ على التمتع والرفاهية المفرطة في هذه الحياة الدنيا ، و أيضا لا يهتم لأمر العقاب والحساب في الآخرة .والنتيجةُ أنَّ الكسلَ أصبحَ صفةً لِلْمُجتمَعِ وللدولةِ بأكمَلِها. فكَسَلُ العقولِ يَنتُجُ عَنْهُ قِلَةُ اكتراثِ البشرِ بالقُوةِ الإبداعِيةِ الْمُفكِرَةِ التي أودَعَها اللهُ فيهِم ، فيَشيعُ التَّبَلُّدُ والشَّلَلُ الفِكرِيُّ والتَّعَلُّقُ بالْخُرافاتِ، بِالإضافَةِ إلى كَسَلِ البدَنِ المؤدي إلى التّثاقُلِ عنِ الطاعاتِ وأداءِ العباداتِ وكراهِيَّةِ الالتزامِ بالأحكامِ الشَّرعِيةِ على النَّفسِ، فَيُؤَدي كل ذلك إلى تَأَخُرِ الأفرادِ والْمُجتمعِ ، الذي لا تُهِمُّهُ النَّهضَةُ الفِكريةُ ولا التَّطورُ في مَجالاتِ النّشاطاتِ المختلفةِ مِن زراعةٍ وصناعةٍ وغيرِهِما. فيا لَهُ مِنْ وَضْعٍ مُزرٍ يَصِلُ بالإنسانيةِ إلى دَرَجَةٍ كبيرَةٍ مِنَ الانحطاطِ يَعْجِزُ فيه عنِ الأخذِ بِيَدِ الإنسانيةِ جمعاء. فيجبُ أنْ يُدركَ المسلمُ أنَّ هذا الكسلَ فيهِ تفريطٌ كبيرٌ في النهضةِ الفكريةِ التي هي أساسُ كلِّ المجتمعاتِ والدولِ التي تقودُ العالَمَ .
ومِنَ الضروريِ في عمليةِ البِناءِ والهدمِ تدبُرُ هذهِ الآياتِ الكريمةِ والأحاديثَ الشريفةِ وأن نتذكُرُ مَعانيها جيداً، فقد ذُكِرَ لفظُ الكَسَلِ في كتابِ اللهِ تعالى. قال الله تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ) النساء: 142. ففي هذه الأية ذكر الكسل مقرونا بالذم مَقروناً بالذمِ فقدْ جُعِل صفةً مِن صِفاتِ المنافقينَ وعلامةً مِن علاماتِهِم ..فالنِّفاقُ إذا مِن أسبابِ الكسلِ. وقال ابنُ كثير: “هذهِ صفةُ المنافقينَ في أشرفِ الأعمالِ وأفضَلِها وخَيرِها، وهِيَ الصَّلاةُ، إذا قاموا إليها قاموا وهُم كُسالى عنها، لأنَّهُم لا نيةَ لَهُم فيها، ولا خَشيَة، ولا يَعقِلُونَ مَعناها .كمَا رَوى ابنُ مِردَويهِ عنِ ابنِ عباس قال: “يُكرَهُ أنْ يقومَ الرجلُ إلى الصلاةِ وهُوَ كَسلان، ولكِنْ يقومُ إليها طَلِقَ الوجهِ ، عظيمَ الرَّغبةِ، شديدَ الفرحِ فإنَّهُ يُناجي اللهَ تعالى ، وإنَّ اللهَ تِجاهَهُ يَغفِرُ لَهُ ويُجِيبُهُ إذا دعاه. فالفَرقُ بينَ التَصرُّفَينِ فرقٌ عظيمٌ هُو الفرقُ بين الجنَّةِ والنَّارِ ، فيجب أن نَبْنِي أهميةَ ربطِ الأعمالِ والعباداتِ بالعقيدةِ الإسلاميةِ فَهِيَ أساسٌ لبناءِ الإيجابياتِ ولِهدمِ السلبياتِ في عقليةِ ونفسيةِ الشخصيةِ الإسلامية.وكما ذكر الكسل في السُّنةُ النَّبويَّة الشريفة ُ: فقدْ استعاذَ النَّبِيُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ مِنَ الكسلِ، مِمَّا يَدُلُ على ذمِّهِ فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ” اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ ” – رواه البخاري ومسلم ، وقَرَنَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ بالعَجْزِ، لأنَّ كلَيهِما يُؤدي إلى التَّثاقُلِ عن إنجاز الْمَهماتِ. فالعجزُ أو حُبُ الراحةِ مِن أسبابِ الكسل .
وقال صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيمَنْ نامَ ولَمْ يُصَلِّ بالليلِ حتى أصبحَ، وقيلَ نامَ عَنْ صلاةِ العِشاء ، قال عليه الصلاة والسلام : ” يَعقِدُ الشيطانُ على قافِيةِ رأسِ أحدِكُم إذا هُوَ نامَ ، ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضرِبُ على مَكانِ كُلِّ عُقدَةٍ قائلا : عليكَ ليلٌ طويلٌ فارقُدْ، فإنِ استقيظَ فَذَكَرَ اللهَ انحلَّتْ عُقدةٌ، فإنْ توضَأَ انحلت عُقدةٌ، فإنْ صلَّى انحلتْ عُقدةٌ، فأصبحَ نشيطاً طَيِّبَ النَّفسِ، وإلا أصبحَ خبيثَ النَّفْسِ كسلان ” – رواه البخاري ومسلم .
من ذلك إذا أخواتي وإخوتي الكرام ، على المرء المسلم أن يَحذَرِ المسلمُ أنْ يَتَعَوَّدَ على الكسلِ. فحقٌّ على الإنسانِ ألا تَذهَبَ عامةُ أوقاتِهِ إلا في إصلاحِ أمرِ دينِهِ ودُنياه، مُتوصِلاً بِذلكَ إلى إصلاح أمرِ آخرته، ومُراعياً لها. فَمَنْ يعملُ لأنْ تكونَ أُمَّتُهُ خيرَ أمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ ليسَ لديهِ وقتٌ يُضَيِّعُهُ في الراحةِ، فالفراغُ والقُعودُ وعدمُ استثمارِ الوقتِ في طاعةِ اللهِ تعالى أحدُ أسبابِ الكسلِ، وكذلكَ مِنْ أسبابِهِ كثرةُ الأكلِ والنَّومِ والتَّرَفِ، والصُّحبةُ الكسولَةُ، والإسترسالُ في الأوهامِ والأحلامِ، فالراحةُ لا تُنالُ بالراحة. ولِذلكَ كان لِزاماً أنْ نَهْدِمَ أسبابَ الكسلِ والتَّكاسُلِ عنِ القيامِ بِالواجِباتِ وأداءِ الحقوقِ التي يُحاسِبُنا اللهُ تعالى عليها، ويجبُ أنْ نَهدمَ الوَهنَ أيْ حُبُّ الدنيا وراحَتُها وكراهيةُ الموتِ. كما يَجبُ أنْ نَبْنِيَ سُرعةَ البديهةِ في المسلمِ وحبَّ الْمُبادَرَة بالقيامِ بالطاعاتِ المفروضةِ ونَبْنِيَ فيهِ النُّفورَ مِنَ الْمُحرَماتِ كلِّها، وذلكَ يكونُ بأنْ نَرسِمَ الغايةَ الواضِحَةَ والهدَفَ مِنْ حياةِ الْمُسلِمِ أمامَ عَيْنَيْهِ، ألا وهِيَ رِضوانُ اللهِ تعالى. وَيَجِبُ علينا شَنُّ حربٍ على الكَسَلِ بالإيمانِ الحقيقِيِّ المؤدي إلى العملِ النَّافع، وأيضا مَلْءُ الفراغِ بالأعمالِ العظيمَةِ وعدمُ الرُّكونِ إلى التَّرَفِ والانْهِماكِ في طَلَبِ الملَّذات. وَوَضْعُ أهدافٍ عُليا والعَمَلُ على تَحقيقِها ويُساعدُنا في ذلكَ كلِّهِ مُصاحَبَةُ أهلِ العَمَلِ والاجتهاد. وبهذا يا حضور يا كرام ، نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة وإلى لقاء قريب إن شاءالله .
وصلِّ اللهُمَّ على سيدِنا مُحمدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ أجمعين .
والسلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ تعالى وبركاتُهُ.