الميزان
ميزان الفكر والنفس والسلوك
الحلقة الرابعة عشرة
ومن الأسس التي أولاها الإسلام عناية خاصة ما يسمى برأي الأكثرية، وحصره وقيده في الأمور التي تؤدي إلى عمل، والأمور التي لا يُبحث فيها عن الصواب، أما الأمور التي مآلها تحديد الصواب فلا عبرة فيها برأي الأكثرية، فالأمور التشريعية يُتّبع فيها الدليل الشرعي باستنباط صحيح ضمن الأصول الفقهية المتبعة المعتمدة، ودليل ذلك النصوص التي أمرت بطاعة الله ورسوله، وكذلك فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، فلم يأبه لرأي الأكثرية، بل قال: (إنما أتبع أمر ربي ولن يضيعني). وكذلك الأمور التي تحتاج إلى خبرة، كالخبرة العسكرية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل عند رأي واحد من الصحابة في كل من غزوة بدر وغزوة الخندق، ففي غزوة بدر نزل عند رأي الحباب بن المنذر، في اختيار المكان المناسب للجيش، وفي غزوة الخندق نزل عند رأي سلمان الفارسي في حفر الخندق حول المدينة. وكذلك الأمور الفكرية والتعريفات فإنها يُتّبع فيها الصواب، ويؤخذ بالرأي الصواب من المفكرين والمتخصصين وأهل العلم والخبرة.
أما الأمور المؤدية إلى عمل، والأمور التي لا يبحث فيها عن الخطأ والصواب، فإنه يُتّبع فيها رأي الأكثرية، ويكون رأي الأكثرية فيه ملزماً، كاختيار خليفة من بين شخصين قام بالموافقة على ترشيحهما مجلس الأمة، وتتوافر فيهما شروط الخلافة، فإن من ينال أكثرية الأصوات يصبح هو الخليفة. وكذلك من الأمور المؤدية إلى عمل بناء مدرسة أو مستشفى في مدينة من مدن الدولة، فإن اختار الناس مكاناً معيناً للمدرسة أو المستشفى فإنه يؤخذ برأيهم أي برأي الأكثرية. فالموضوع الوحيد الذي يؤخذ فيه برأي الأكثرية أن يكون مؤدياً إلى عمل، وما عدا ذلك من الأمور التشريعية والفكرية والخبرة والاختصاص والتعريفات فإنها تؤخذ من أهلها المختصين كل بحسب اختصاصه، ويؤخذ بالصواب فيها، ولا عبرة فيها برأي الأكثرية.
وقد وردت آيات كثيرة ورد فيها ذمّ الكثرة والأكثرية، وآيات ورد فيها مدح القلة، فقال سبحانه وتعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) سورة الأنعام، فنسب اتباع الظن لأكثر من في الأرض، وقال سبحانه: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) سورة يوسف، نسب إلى الكثرة عدم الإيمان، وقال سبحانه أيضاً ينسب إلى الكثرة عدم الإيمان: (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ) سورة الرعد، وقال سبحانه: (وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) سورة النحل، فنسب إلى الكثرة عدم العلم، وقال سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) سورة غافر، فنسب إلى الكثرة عدم الشكر، وقال سبحانه أيضاً في قلة الشكر: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) سورة سبأ.
كما أنه سبحانه نهى عن اتباع الظن في أمور العقيدة، وذمّ الذين يتبعون غيرهم ويقلدونهم في العقيدة، وأنهم سيتبرأون منهم كما تبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا، فقال سبحانه: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى {19} وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى {20} أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى {21} تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى {22} إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى) سورة النجم، فذمّهم وذمَّ اتباعَهم الظن في اتخاذ الأصنام آلهة من دون الله. وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) سورة يونس، وغيرها الكثير من الآيات في ذمّ اتباع الظنّ في مسائل العقيدة. وقال سبحانه وتعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ {166} وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) سورة البقرة، فمن يتبعْ غيرَه في الاعتقادات يتبرأ منه يوم القيامة، وقال سبحانه وتعالى في ذم اتباع السادة والكبراء في الباطل: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا {66} وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) سورة الأحزاب.
وأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بطاعة الله وطاعة رسوله، وقرر حقيقة أنه ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، وأمر المؤمنين إن تنازعوا في أمر أن يردوه إلى الله والرسول.
وسنتناول في نهاية الكتاب عدداً من الأفكار التي أخطأ في فهمها المسلمون، ولو أنهم قاسوها على العقيدة الإسلامية، وجعلوا العقيدة أساساً وقاعدة لأفكارهم لما أخطأوا في فهمها.
كتبها للإذاعة وأعدها: خليفة محمد- الأردن