دروس وعبر من الهجرة- ج1
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وآله وصحبه ومن والاه. أما بعد: قال الله تعالى في محكم كتابه وهو أصدق القائلين : (إلا تنصروه فقد نصره الله, إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا, فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها, وجعل كلمة الذين كفروا السفلى, وكلمة الله هي العليا, والله عزيز حكيم ). ( التوبة 40).
لقد كانت هجرة النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين منعطفاً تاريخياً حاسماً بل كانت حادثة مهمة غيرت مجرى التاريخ, مما جعل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما أراد أن يحدد بداية لتاريخ الدولة الإسلامية يؤرخ بتاريخ الهجرة النبوية لما لها من أهمية, ولما فيها من الدروس والعبر التي يجدر بالمسلمين أن يعوها ويفهموها ويجعلوها في موضع التطبيق من حياتهم ليسعدوا بها ويفوزوا برضا الله تبارك وتعالى. وفي هذه الحلقة ستعرض على أسماعكم بعضاً منها, ونكمل الحديث عنها في الحلقة القادمة أن شاء الله تعالى.
بادئ ذي بدء, وفي مقدمة حديثنا عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم نقول وبالله التوفيق: إنه لا يجوز للمسلمين أن يحتفلوا إلا في عيدين اثنين هما: عيد الأضحى, وعيد الفطر, فقد نهانا الحبيب صاحب هذه الذكرى عن اتباع اليهود والنصارى, وتقليدهم في أعيادهم.
إذًا ما هي الدروس والعبر المستفادة من حادثة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أهي خطب مملولة تلقى على المنابر؟ أهي مراسم واحتفالات وأعياد؟ أتحولت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عيد؟ أيرضى الحبيب المصطفى منا ذلك؟
حديثنا عن الهجرة ليس تأريخا لهذا الحدث العظيم في تاريخ الدعوة الإسلامية, وليس سرداً لأحداث قصة الهجرة النبوية, نسوقها لأجل التسلية واللهو والترفيه عن النفس. حديثنا عن الهجرة إنما هو تذكير بما يستفاد منها من دروس وعبر, فالإسلام بعيد كل البعد عن أن يكون مجرد مراسم واحتفالات في أيام محددة.
الإسلام إيمان وعمل, والرسول صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة إلى المدينة, وهجرته طور من أطوار الدعوة ومرحلة من مراحل التبليغ , وهي فوق ذلك أمر من الله تعالى, فقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذاً لأمر الله جل في علاه, ولم يهاجر صلى الله عليه وسلم خوفاً من أذى قريش كما يقال أو فراراً بدينه كما تعلمنا في المناهج المدرسية, فالله سبحانه وتعالى قد عصمه من الناس , قال تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك, وإن لم تفعل فما بلغت رسالته, والله يعصمك من الناس, إن الله لا يهدي القوم الكافرين). (المائدة 67) هذا بالإضافة إلى أنه لا يجوز في حق الأنبياء والمرسلين، ونبينا صلى الله عليه وسلم واحد منهم أن يخافوا في الله لومة لائم. قال الله تعالى: (إني لا يخاف لدي المرسلون). ( النمل10)
فقد كان عليه الصلاة والسلام أعزل من كل شيء إلاَّ من الإيمان بالله تعالى، نزلت عليه آيات الله فكان نبياً, وأمر بتبليغها فصار رسولاً، بلغ الناس كل الناس , وأول ما بدأ بقريش , أهله وعشيرته تنفيذاً لأمر الله القائل: ( وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ). ( الشعراء 216)
ومن استجاب منهم ضمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كتلته وصحابته حتى يكتمل بناؤه ويقوى إيمانه, ويعده لطور جديد, ومرحلة أخرى من مراحل الدعوة.
فهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يبلغ سراً, بل كان يصدع بأمر الله تعالى جهاراً نهاراً لا يخشى من ا لبشر أحداً. قال الله تعالى: ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المسهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون). ( الحجر96 )
حتى قيل عنه: إن ابن أبي طالب يتنبأ, يزعم أنه يأتيه الأمر من السماء. وعندما أحس الرسول صلى الله عليه وسلم بسلامة بناء من اتبعه, وبقدرتهم على هدم العقائد الزائفة والآراء الفاسدة, وثبات العقيدة في قلوبهم, جاءه أمر ربه بأن اصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. الأمر لكتلته بأن يخرج بها من طور السرية إلى طور العلن. وخرج بهم صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم بن أبي الأرقم في صفين اثنين:
الصف الأول على رأسه حمزة بن عبد المطلب. رضي الله عنه.
الصف الثاني على رأسه عمر بن الخطاب. رضي الله عنه.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وصدم المجتمع. وكانوا أقوياء في الله وبالله!لم يهنوا ولم يحزنوا! تحملوا التجويع والتقتيل والتشريد والدعاية الداخلية والخارجية والحصار النفسي! تحملوا كل ذلك, وتحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم كي يرضوا الله ربهم!
وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجرب قبائل العرب, ويعرض عليهم الأمر بأن يحتضنوا دعوته, ويحموا دينه ليقيم صرح دولته! جرب مكة ولكنها صدته وآذته. وجرب قبيلة عامر بن صعصعة, وجرب قبائل نجد وبعض قبائل اليمن, وعرض الأمر على قبائل الحجاز ولكنهم ردوه جميعا! فذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يعرض أمره فلاقى بها أسوأ ما لاقى, ضربوه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين, وخرج منها كسيفاً حزينا مهموما, لكن ذلك لم يمنعه من مواصلة الطريق, ولم يَفتَّ في عضده, ولم يُضعف صلابة إيمانه, واسمعوا قوله وهو يناجي ربه بعد خروجه من الطائف:
(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي, وهواني على الناس, يا أرحم الراحمين, أنت رب المستضعفين وأنت ربي, إلى من تكلني, إلى بعيد يتحهمني أم إلى عدو ملكته أمري, إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي, ولكن عافيتك هي أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة, من أن تنزل بي غضبك, أو يحل علي سخطك, لك العتبى حتى ترضى, ولا حول ولا قوة إلا بك)!
ورجع صلى الله عليه وسلم إلى مكة في جوار سيد من ساداتها, وهو مطعم بن عدي, وعرض في موسم الحج أمره على أهل المدينة فآمن منهم اثنا عشر نقيبا وامرأة , فبعث رسول الله معهم مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلمهم ويعلم من يدخل في الإسلام الإسلام, فعاد مصعب في العام القابل وقال لحبيبه: يا رسول الله, لم يبق بيت في المدينة إلا وفيه ذكر للإسلام, وهاهم نقباء المدينة جاءوا يبايعونك!
وهنا نتساءل: على أي شيء جاءوا ليبايعوا؟ أجاءوا مبايعين بالنبوة أم بالرسالة؟ وهما لا بيعة فيهما من أحد لأنهما تكليف من الله تبارك وتعالى, أم جاءوا يبايعونه على الحكم والسلطان؟ أن هاجر إلينا يا رسول الله, وحكم شريعتك في علاقاتنا, ونحن نحميك كما نحمي أبناءنا ونساءنا!
والمتصفح لنص بيعة العقبة الثانية يرى هذا واضحاً كل الوضوح, إذ قالوا له: يا رسول الله: ابسط يدك نبايعك على السمع والطاعة في المنشط والمكره, نمنعك ما دمت فينا مما نمنع منه نساءنا وأطفالنا, فقام فتى منهم قائلاً: على رسلكم أتدرون علام تبايعون؟
إنكم والله تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس, فإن كنتم تاركيه إن نهبت الأموال, ونهكت الأعراض, وقتلت الأشراف فدعوه من الآن, فإنه والله خزي الدنيا والآخرة! وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك! فقالوا: أفرغت؟ قال: نعم, قالوا: يا رسول الله, ما لنا إن نحن وفينا؟ قال: لكم الجنة! قالوا: ابسط يدك نبايعك! فبايعهم. وأمره ربه بالهجرة, فأمر عليه الصلاة والسلام أصحابه بأن يهاجروا إلى المدينة, ثم انتظر هو وحي السماء!
وأراد أبو بكر أن يهاجر فقال له عليه السلام: لا تعجل, فلعل الله يجعل لك صاحبا! وهاجر صلى الله عليه وسلم ولن نقف طويلاً على تفصيل رحلة هجرته حتى وصل المدينة , فذاك كلام محفوظ! كان يسير ليلاً ويختبئ نهاراً, نسجت العنكبوت على باب الغار نسيجاً, قال لصاحبه: «لا تحزن, إن الله معنا» لحق به سراقة بن مالك, ساخت أقدام فرسه في التراب, دخل الرسول المدينة, قابله أهلها بالأناشيد:
طلع البدر علينا
طلـع البدر علينا من ثنيات الـوداع
وجب الشكر علينا ما دعــا لله داع
أيها المبعوث فينـا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير داع
الهجرة مرحلة من مراحل الدعوة وخطوة من خطوات بناء الدولة وهي أيضا تكليف لنا بإيجاد الدولة والحفاظ عليها. إن هجرته صلى الله عليه وسلم تكليف لنا من الله تعالى بالحفاظ على الذي هاجر من أجله وإليه. فلقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقيم دولة الإسلام , هاجر ليقيم حكم الله في الأرض , هاجر لتكون كلمة الله هي العليا, وكلمة الذين كفروا السفلى! من أجل كل هذا هاجر صلى الله عليه وسلم وكانت هجرته مرحلة من مراحل الدعوة. فلأي شيء نخطب إذاً؟ أفعلنا كما فعل الحبيب؟ هل شرع الله يتحكم في علاقاتنا؟ هل القرآن دستورنا المطبق في حياتنا؟ هل لنا نحن المسلمين في شتى بقاع العالم دولة واحدة موحدة تحكم بشرع الله المتمثل في كتاب الله وسنة رسوله؟
الجواب معروف دونما إشارة, فنحن المسلمون نهب مقسم موزع على القوى, يتحكم نظام الكفر في حياتنا, وشرع الله منفي عن أرضنا, ونتمحك في المناسبات بآيات الله وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام!
وقبل أن نودعكم على أمل اللقاء بكم في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى نستكمل بها الحديث عن الدروس والعبر المستفادة من الهجرة النبوية, أذكركم بأهم الدروس والعبر المستفادة في هذه الحلقة:
- 1. عيد الأضحى وعيد الفطر هما فقط العيدان الشرعيان للمسلمين.
- 2. الهجرة مرحلة من مراحل الدعوة, وخطوة من خطوات بناء الدولة الإسلامية.
- 3. الهجرة تكليف لنا بإيجاد دولة الخلافة والحفاظ عليها.
وفي الختام أن ينفعنا بما نقول ونسمع ونعمل وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه! اللّهم عجل لنا بالخلاص, وابعث فينا إماماً مخلصاً رحيماً بأمته, يقودنا لطاعتك وإقامة حكمك. اللهم أكرمنا بقيام دولة الخلافة واجعلنا من جنودها الأوفياء المخلصين. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.