إقامة الدولة في ظل قانون السببية
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الجزء الحادي عشر: بين السنن والسببية)
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنا
سبق وقلنا إن السنن هي صفات منبثقة للجماعات والشعوب لا تظهر من الإحساس المباشر بل تظهر فقط من خلال الآثار أي من خلال وجود هذه الشعوب والجماعات تحت تأثير فعل أو أفعال معينة، فينتج من ذلك نتائج وآثار، وحين نقوم بمشاهدة وجود اضطراد معين بين الأفعال محددة مع نتائج لها واقعة على المجتمعات نستنبط وجود علاقة ثابتة نسميها السُّنَّةُ أو النَّامُوسُ أو الطَّبْعُ وهو يخص الإنسان والمجتمع البشري فقط“[1].
أما السببية، فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يخلق الكون ويجري فيه قوانين صارمة؛ منها ما يقتضيه نظام الوجود، ومنها ما لا يقتضيه نظام الوجود، وإن كان كل شيء لا يخرج عن نظام الوجود، فنظام الوجود يقتضي أن لا يطير الإنسان إلا بآلة تتغلب على الجاذبية، ولا يستطيع أن يمشي بوضعه الطبيعي على الماء، واقتضى نظام الوجود أن الاثنين أكثر من الواحد، وأن القوة تغلب الضعف، وأن الكواكب تدور حول الشمس، فهذا كله من تنظيم الله تعالى للوجود ليسير وفقا لقوانين (سنن) معينة صارمة فيه، وأما ما لا يقتضيه نظام الوجود، فأن يسير شخص في شارع فيسقط جسم من أعلى (من أعلى برج عال مثلا) عليه فيقتله، فهذا السقوط حدث بغير إرادة منه، ولا يقتضي نظام الوجود، وجود الشخص تحت الجسم الساقط جبرا، وإنما حدث حادثا، ولكنه إذ حدث خضع لنظام الوجود القاضي بأن الجسم الثقيل الذي يقع من مسافة عالية على شخص يتسبب في قتله، فتسبب بقتل الشخص.
وحيث إن الأصل في أشياء الكون جميعا أنها مستقرة ومتزنة لا تتغير ذاتيا، أي هي عاجزة وقاصرة عن تغيير حالة الاستقرار التي هي فيها لوجود صفة الاحتياج أو القصور الذاتي[2] فيها، فهي تقاوم تغيير تلك الحالة من الاستقرار ولا تتغير إلا بتأثير أسباب معينة. فإن السبب هو الشيء الذي يكتسب طاقة التغيير في زمن معين، ويستطيع بامتلاكه هذه القوة السببية أن يؤثر في غيره من الأشياء القابلة للتأثُّر ونقلها من حالة معينة إلى حالة جديدة مغايرة للحالة السابقة.
وللسبب ثلاث صفات هي: استطاعة التغيير والتأثير، والتعاون مع الشروط، وحتمية أو ضرورة الإنتاج للمسبَّب.[3]
والمعيار الصحيح للتفريق بين العوامل التي تحدث النتيجة أي التفريق ما بين السبب وباقي الشروط يكون بناء على اكتساب واحد من هذه العوامل أو أكثر للطاقة المؤثرة فيتم اعتباره سببا لتلك النتيجة.
وقد يستغرق تأثير الطاقة السببية في الأشياء زمنا، ما بين بدء الفعالية السببية، وانتهاء بحصول النتيجة، هو الزمن اللازم للطاقة السببية لبلوغ مرحلة التأثير وإحداث التغيير، ففي الأنظمة السببية البسيطة قد يحدث فورا، وأما في الأنظمة الأعقد التي تتطلب شروطا وأسبابا متعددة فسينتظر بلوغ تلك الأسباب مثلا: عملية دورة الماء في الحياة، وهطول المطر، لكن لا بد أن يكون حصوله حتميا في الحالتين!
فالعلاقة السببية إذن تثبت بين واقعتين متتابعتين إذا تبين بالتحليل العقلي أن حصول الواقعة السابقة زمنا (بدء فعالية السبب) قد حرك قانونا أو مجموعة من القوانين الطبيعية أفضت وأدت حتما ولزوما إلى حصول الواقعة التالية. فالعلاقة سببية، فالقوانين هي الرابط بين طرفي العلاقة السببية.
أما النظام السببي، فإن التعاون بين مجموعة من الأسباب لأداء عمل مشترك يشكل نظاما سببيا، فالنظام يتكون من أجزاء، وما يجمع هذه الأجزاء معا هو وجود شبكة من الروابط بينها وإلى ترتبها في نسق وأشكال ربط معينة أو وفق برمجة محددة.
وحيث إن الأشياء تميل إلى الفوضى ولا تنتظم إلا جبرا عنها، ولذلك لا يوجد تعاون تلقائي بين الأسباب لأداء وظيفة ما بل العكس هو الصحيح، والنظام السببي بحاجة إلى روابط وإلى طاقة تجمع الأجزاء المختلفة لتشكيل كيان جامع، وإذا كسرت الروابط انفلتت تلك الأجزاء من النظام وعادت إلى حالتها الطبيعية ودبت فيها الفوضى.
وبما أن الأصل في تصرفات الأسباب أنها تميل إلى الانفلات من النظام فإن وجود النظام ابتداء بحاجة إلى سبب يربط ويجمع أجزاءه ويبرمجها حتى يتشكل النظام ليؤدي الوظائف التي أرادها له منظمه.
[1] من بحث: السببية وسنن الحياة للأستاذ يوسف الساريسي.
[2] فالجسم الذي يسير بسرعة معينة في اتجاه معين سيبقى يسير فيه لا يتغير في سرعته ولا اتجاهه إلا إذا أثر عليه مؤثر خارجي، فيستجيب لتأثيره فتتغير سرعته أو اتجاهه، أو يتوقف، والجسم الساكن سيبقى ساكنا حتى يقع تحت تأثير جسم لديه طاقة كافية لتحريكه وهكذا فالأجسام كلها فيها خاصية القصور الذاتي.
[3] فإذا لم ينتج عن وجوده وجود المعلول لا يكون علة له، وضربنا مثلا على تغيير المجتمع بتغيير أخلاقه مثالا على ما ظُنَّ بأنه علة للتغيير وما هو كذلك!