بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح12)
وجوب استعمال العقل في الوصول إلى الإيمان بالله
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا “بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام” وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ, وَعُنوَانُهَا: “وُجُوبُ استِعمَالِ العَقْلِ فِي الوُصُولِ إِلَى الإِيمَانِ بِاللهِ”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتَينِ السَّابِعَةِ وَالثَّامِنَةِ مِنْ كِتَابِ “نظامُ الإسلام” لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: “نَعَم؛ إِنَّ الإيمانَ بالخالقِ المدبِّرِ فِطْرِيٌ في كلِّ إنسانٍ. إِلا أَنَّ هذا الإيمانَ الفطريَّ يأتِي عن طريقِ الوِجْدَانِ. وهو طريقٌ غيرُ مَأْمُونِ العاقِبَةِ، وغيرُ مُوصِلٍ إِلى تركيزٍ إذا تُرِكَ وَحْدَهُ. فالوِجدانُ كثيراً ما يُضْفِي على ما يُؤْمِنُ بِهِ أَشْيَاءَ لا حقائقَ لهَا، ولكنَّ الوِجدانَ تخَيَّلَهَا صِفاتٍ لازمةً لِمَا آمَنَ بِهِ، فَوَقَعَ في الكُفرِ أو الضَّلالِ. وما عبادةُ الأوثانِ، وما الخُرافاتُ والتُرَّهَاتُ إلا نَتيجَةً لخطأِ الوِجدانِ. ولهذا لم يَتْرُكِ الإسلامُ الوِجْدَانَ وحدَهُ طريقةً للإيمانِ، حتى لا يجعلَ للهِ صفاتٍ تَتَنَاقَضُ مَعَ الأُلُوهِيَّةِ، أو يجعلَهُ مُمْكِنَ التَجَسُّدِ في أشياءَ مادِّيَّةٍ، أو يَتَصَوَّرَ إِمكانَ التَقَرُّبِ إلَيْهِ بعِبادةِ أَشياءَ مادِّيَّةٍ، فيُؤَدِّيَ إمَّا إلى الكفرِ أو الإشراكِ، وإمَّا إلى الأوْهَامِ والخُرافَاتِ الَّتي يَأْبَاها الإيمانُ الصادقُ. ولذلكَ حَتَّمَ الإسلامُ استعمالَ العَقْلِ مَعَ الوِجدانِ، وأَوْجَبَ على المُسلمِ استعمالَ عقلِهِ حينَ يُؤْمنُ بِاللهِ تعالى، ونَهى عَنِ التقليدِ في العقيدةِ ولذلكَ جَعَلَ العقلَ حكماً في الإيمانِ باللهِ تعالى. قالَ تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ). ولهذا كانَ واجباً عَلى كلِّ مسلمٍ أَنْ يَجْعَلَ إيمانَهُ صادراً عَنِ تَفْكيرٍ وبَحْثٍ ونَظَرٍ، وأَنْ يُحَكِّمَ العَقلَ تحكيماً مُطلقاً في الإيمانِ باللهِ تعالى. والدعوةُ إلى النَظَرِ في الكونِ لاستنباطِ سُنَنِهِ وللاهتداءِ إلى الإيمانِ بِبَارِئِهِ، يُكَرِّرُهَا القُرآنُ مِئَاتِ المرَّاتِ في سُوَرِهِ المُخْتَلِفَةِ، وكُلُّهَا مُوَجَّهَةٌ إلى قُوَى الإِنسانِ العاقِلَةِ تَدعُوهُ إلى التَدَبُّرِ والتَأَمُّلِ لِيَكونَ إيمانُهُ عَنْ عقلٍ وبَيِّنَةٍ وتُحَذِّرُهُ الأَخْذَ بما وَجَدَ عَلَيْهِ آبَاءَهُ مِنْ غيرِ نَظَرٍ فيه وتَمْحِيصٍ لَهُ وثِقَةٍ ذَاتِيَّةٍ بِمَبْلَغِهِ مِنَ الحقِّ. هذا هوَ الإيمانُ الذي دَعَا الإِسلامُ إِلَيْهِ، وهوَ لَيْسَ هذا الإيمانَ الَّذي يُسَمُّونَهُ إيمانَ العَجَائِزِ، إنَّمَا هوَ إيمانُ المُسْتَنِيرِ المُسْتَيْقِنِ الَّذي نَظَرَ ونَظرَ، ثُمَّ فَكَّرَ وفَكَّرَ، ثُمَّ وَصَلَ مِنْ طَريقِ النَظرِ والتَفْكِيرِ إلى اليَقِينِ بِاللهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ”.
ونَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: بَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا e بِالرِّسَالَةِ الخَاتَمَةِ؛ لِيُخرِجَ النَّاسَ مِنْ ظُلُمَاتِ الجَهْلِ إِلَى أنوَارِ العِلْمِ, وَكَانَ العَالَمُ قَبلَ البِعثَةِ المُحَمَّدِيَّةِ وَفِي زَمَنِهَا، غَارِقًا فِي بَحْرِ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَفِي مُقَدِّمَتِهَا ظُلمَةُ الجَهْلِ الَّتِي تَستَتْبِعُ بَاقِي الظُّلُمَاتِ, فَكَانَ مِنَ الطَّبِيعِيِّ وَالمَنطِقِيِّ أنْ يَكُونَ شِعَارُ الدِّينِ الخَاتَمِ «اقرأ» وَأنْ يَكُونَ إِعلاءُ شَأنِ العَقْلِ وَالتَّفكِيرِ وَالعِلْمِ وَطَلَبِهِ وَتَعلِيمِهِ أوَّلَ المبَادِئِ لِتَرَقِّي مِعرَاجِ الكَمَالِ الإِنسَانِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الإِسلامُ. فَبِاستِخدَامِ العَقْلِ يُفَرِّقُ الإِنسَانُ بَينَ الصَّالِحِ وَالفَاسِدِ، وَبِتَعطِيلِهِ تَلْتَبِسُ عَلَيهِ الأُمُورُ وَيَفقِدُ هَذَا التَّميِيزَ. وَبِطَلَبِ العِلْمِ يُدرِكُ حَقَائِقَ الأشيَاءِ، وَدَلالاتِهَا عَلَى عَظَمَةِ وَقُدرَةِ اللهِ وَصِفَاتِ الكَمَالِ وَالجَلالِ, فَإِذَا لَمْ يَطلُبِ الإِنسَانُ العِلْمَ بَقِيَ فِي ظُلُمَاتِ الجَهْلِ لا يَعرِفُ الحَقَائِقَ وَلا الدَّلائِلَ، وَلا مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ, وَلا مَقَاصِدَ الشَّرَائِعِ، فَضْلاً عَنْ جَهْلِهِ بِالعُلُومِ الأُخرَى الَّتِي تَزِيدُهُ نُورًا، وَتُبَيِّنُ لَهُ طَرِيقَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ؛ لِذَلِكَ كَانَ مَبدَأُ العِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ وَالتَّعلِيمِ، عَلَى مَدَى الحَيَاةِ الفَردِيَّةِ وَالجَمَاعِيَّةِ، أوَّلَ مَبَادِئِ بِنَاءِ الحَضَارَةِ الإِسلامِيَّةِ الرَّاقِيَةِ.
وَمِنْ هُنَا يَجِدُ قَارِئُ القُرآنِ الكَرِيمِ عَدَدًا كَبِيرًا مِنَ الآيَاتِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى استِخدَامِ العَقلِ، وَطَلَبِ العِلْمِ، مُبَيِّنَةً فَضْلَهُ, وَفَضِيلَةَ العُلَمَاءِ الَّذِينَ يَتَحَلَّوْنَ بِهِ, وَيَعمَلُونَ بِأحْكَامِهِ، وَيَنشُرُونَهُ وَيُبَلِّغُونَ رِسَالَتَهُ لِلنَّاسِ كَافَّةً, وَلا يَبتَغُونَ بِذَلِكَ إلاَّ وَجْهَ اللهِ الكَرِيم.
وَإِذَا تَدَبَّرْنَا هَذِهِ الآيَاتِ وَجَدْنَا أنَّهَا تَدعُو إِلَى التَّفَكُّرِ وَاستِخدَامِ العَقْلِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ:
1. مِنْ بَيَانِ الغَايَةِ مِنْ تَنْزِيلِ الآيَاتِ القُرآنِيَّةِ وَبَثِّ الآيَاتِ الكَونِيَّةِ: إِنَّ الغَايَةَ المَرجُوَّةَ مِنْ تَنْزِيلِ آيَاتِ القُرآنِ الكَرِيمِ, وَمِنْ بَثِّ الآيَاتِ أيِ العَلامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحدَانِيَّةِ الخَالِقِ وَعَظَمَتِهِ, هِيَ أنْ يَعقِلَ الإِنسَانُ هَذِهِ الحَقِيقَةَ الكُبرَى, وَأنْ يَعمَلَ بِمُقتَضَاهَا. قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (يوسف 2) وَقَالَ: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (البقرة 73) فَحَرفُ «لَعَلَّ» يُفِيدُ التَّرَجِّي, وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ الغَايَةِ المَرجُوَّةِ وَالمَقصُودَةِ مِنْ تَبيِينِ وَإِظهَارِ الآيَاتِ, ألا وَهِيَ حُصُولُ العَقْلِ بِمَفهُومِهِ الشَّرعِيِّ.
2. مِنَ الإنكَارِ وَالتَّشنِيعِ وَالذَّمِّ لِمَنْ لا يَعقِلُ: فَالقُرآنُ لَمْ يَكتَفِ بِبَيَانِ فَضْلِ العَقْلِ, بَلْ بَيَّنَ هَذَا الفَضْلَ مِنْ خِلالِ ذَمِّ حَالِ الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ مَلَكَاتِهِمُ العَقلِيَّةَ, كَقَولِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ). (البقرة 171) شَبَّهَ اللهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِالبَهَائِمِ الَّتِي لا تَعقِلُ، وَزَادَ حَالَهُمْ بَيَانًا بِوَصْفِهِمْ بِالصَّمَمِ وَالبَكَمِ وَالعَمَى، فَكَانَ هَذَا التَّعطِيلُ لِعُقُولِهِمْ مُسَبّبًا لآفاتٍ تَنحَطُّ بِالإنسَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ اللهُ إِلَى حَضِيضِ البَهَائِمِ مَعَ أنَّ لهَا تَسبِيحُهَا الخَاصُّ بِهَا, وَلَكِنَّنَا لا نَفقَهُهُ كَمَا بَيَّنَ القُرآنُ, إِذْ إِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ المَذمُومَةِ لا يَتَّصِفُ بِهَا إِلاَّ الجَاهِلُونَ وَهَذِهِ الأفعَالُ القَبِيحَةُ لا تَصدُرُ إِلاَّ عَنِ الحَمْقَى.
3. مِنْ مَدحِ أصْحَابِ العُقُولِ: فَأُولُو العُقُولِ وَحْدَهُمُ المُؤهَّلُونَ لإِدرَاكِ الحَقِّ وَلِلتَّذَكُّرِ. وَقَدْ سَمَّاهُمُ المَولَى عَزَّ وَجَلَّ بِأُولِي الألبَابِ, وَخَصَّهُمْ بِأجَلِّ العُلُومِ وَأنفَعِهَا. فَقَالَ سُبحَانَهُ: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ). (البقرة 269) فَدَلَّتِ الآيَةُ عَلَى عِظَمِ قَدْرِ الحِكْمَةِ، وَعَلَى عِظَمِ أهلِهَا الذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِنُورِهَا, وَعَبَّرَ عَنهُمْ بِأُولِي الألبَابِ.
4. مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّقلِيدِ فِي العَقِيدَةِ, وَالأمْرِ بِجَعْلِ العَقْلِ حَكَمًا فِي الإِيمَانِ: فَقَد نَهَى الإِسلامُ عَنْ تَقلِيدِ الآبَاءِ فِي العِبَادَةِ. قَالَ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ). (الأنبياء 52-54) وَمِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ e أصْحَابَهُ عَنِ اتِّباعِ سُنَنِ مَنْ كَانَ قَبلَهُمْ: رَوَى التِّرمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ eلَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ e: «سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ). (الأعراف 138) وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ».
إِنَّ الإيمانَ بالخالقِ المدبِّرِ فِطْرِيٌ فِي كُلِّ إِنسَانٍ. وَمَا مِنْ مَولُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ أيْ عَلَى الإِسلامِ, فَأبَوَاهُ إِمَّا يُهَوِّدَانِهِ أو يُنَصِّرَانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ, أي يَجعَلانِهِ يَهُودِيًّا أو نَصرَانِيًّا أو مَجُوسِيًّا. وَقَدِ رَفَضَ الإِسلامُ أنْ يَكُونَ الإِيمَانُ آتِيًا عَنْ طَرِيقِ الوِجْدَانِ وَحْدَهُ. فَمَا هُوَ الوِجدَانُ؟ وَكَيفَ يَأتِي الإِيمَانُ عَنْ طَرِيقِهِ؟ لِلإِجَابَةِ نَقُولُ: الوِجْدَانُ هُوَ رَجْعُ الغَرَائِزِ: غَرِيزَةِ التَّدَيُّنِ, وَغَرِيزَةِ النَّوعِ, وَغَرِيزَةِ البَقَاءِ, هَذِهِ الغَرَائِزُ الثَّلاثُ يَنتُجُ عَنهَا مَشَاعِرُ إِنسَانِيَّةٌ كَمَشَاعِرِ الخَوفِ, وَالغَضَبِ, وَالحُبِّ, وَالاحتِرَامِ, وَالإِعجَابِ, وَالتَّقدِيسِ الَّذِي هُوَ مُنتَهَى الاحتِرَامِ القَلبِي الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى وَضْعِ الأشيَاءِ فِي مَرتَبَةِ الآلِهَةِ.
لِذَلِكَ كَانَ الإِيمَانُ الآتِي عَنْ طَرِيقِ الوِجْدَانِ غيرُ مَأْمُونِ العاقِبَةِ، وغيرُ مُوصِلٍ إِلى تركيزٍ إذا تُرِكَ وَحْدَهُ. فالوِجدانُ كثيراً ما يُضْفِي على ما يُؤْمِنُ بِهِ أَشْيَاءَ لا حقائقَ لهَا، ولكنَّ الوِجدانَ تخَيَّلَهَا صِفاتٍ لازمةً لِمَا آمَنَ بِهِ، فَوَقَعَ في الكُفرِ أو الضَّلالِ. وما عبادةُ الأوثانِ، وما الخُرافاتُ والتُرَّهَاتُ إلا نَتيجَةً لخطأِ الوِجدانِ. وَلَقَد رَأيتُ بِأُمِّ عَينِي حِينَ كُنتُ أعْمَلُ مُدَرِّسًا فِي سَلطَنَةِ عُمَانَ مَجُوسِيًّا يَعمَلُ حَارِسًا لِلمَدرَسَةِ, كَانَ بَعدَ أنْ يَنصَرِفَ الطُّلابُ إِلَى مَنَازِلِهِمْ يَجمَعُ أورَاقَ الكُتُبِ وَالدَّفَاتِرِ المُمَزَّقَةِ وَأخْشَابِ المَقَاعِدِ وَالأشْجَارِ المُتَكَسِّرَةِ, وَيُشعِلُ فِيهَا, ثُمَّ بَعدَ أنْ تَتأجَّجَ النِّيرَانُ يَجثُو عَلَى رُكبَتَيهِ, وَيَضَعُ كَفَّيهِ فَوقَ بَعضِهِمَا أمَامَ عَينَيهِ, وَيُتَمْتِمُ بِكَلِمَاتٍ لا نَفهَمُهَا كَأنَّهُ يَطلُبُ مِنْ تِلْكَ النَّارِ أنْ تُحَقِّقَ لَهُ أمَانِيهِ, وَأنْ تُبعِدَ عَنهُ الشُّرُورَ!! ولهذا لم يَتْرُكِ الإسلامُ الوِجْدَانَ وَحْدَهُ طَرِيقَةً لِلإيمَانِ، حَتَّى لا يَجعَلَ للهِ صِفَاتٍ تَتَنَاقَضُ مَعَ الأُلُوهِيَّةِ، أو يجعلَهُ مُمْكِنَ التَجَسُّدِ في أشياءَ مادِّيَّةٍ، أو يَتَصَوَّرَ إِمكانَ التَقَرُّبِ إلَيْهِ بعِبادةِ أَشياءَ مادِّيَّةٍ، فيُؤَدِّيَ إمَّا إلى الكفرِ أو الإشراكِ، وإمَّا إلى الأوْهَامِ والخُرافَاتِ الَّتي يَأْبَاها الإيمانُ الصادقُ.
وَحَتَّى يَكُونَ الإِيمَانُ صَحِيحًا, وَمُرضِيًا لِلخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَ الإِسلامُ الإِجرَاءَاتِ الآتِيَةَ:
1. دَعَا إِلَى النَظَرِ في الكونِ لاستنباطِ سُنَنِهِ وللاهتداءِ إلى الإيمانِ بِبَارِئِهِ.
2. أوجَبَ عَلى كلِّ مسلمٍ أَنْ يَجْعَلَ إيمانَهُ صادرًا عَنِ تَفْكيرٍ وبَحْثٍ ونَظَرٍ.
3. رَفَضَ أنْ يَكُونَ الإِيمَانُ آتِيًا عَنْ طَرِيقِ الوِجْدَانِ فَقَط.
4. حَتَّمَ وأَوْجَبَ عَلَى المُسلمِ حينَ الإِيمَانِ استِعْمَالَ العَقْلِ مَعَ الوِجْدَانِ.
5. نَهى عَنِ التَّقلِيدِ فِي العَقِيدَةِ, وَجَعَلَ العقلَ حَكَمًا فِي الإِيمَانِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.