كيف نبني وكيف نهدم – إصبر صبر أيوب
في سلسلةِ الهدمِ والبناءِ لا يفوتَنا التحدثُ عن خُلُقٍ عظيمٍ يمثلُ اللبنةَ الأساسيةَ للتفكرِ والتدبرِ وتقصّي الحقائقِ ، ولا تخلو شخصيةٌ إسلاميةٌ مستقيمةٌ وسويةٌ منه بمفهومِه العقائدي من توكلٍ على اللهِ تعالى ونتيجته المؤثرة الظاهرة على النفسية فتجعلها نفسيةٍ راقيةٍ هذا الخلق هو الصبرُ. فالصبر لغةً: الحبسُ والكف، والصبر في أَسماء الله تعالى الصَّبُور – أي هو جل وعلا الذي لا يُعاجِل العُصاة بالانْتقامِ منهم. واصطلاحاً: هو حبسُ النفسِ على فعلِ شيءٍ أو تركِه ابتغاءَ وجهِ الله تعالى.
وأنواعُ الصبرِ ثلاثةٌ وهي – النوع الأول:صبرٌ على طاعةِ اللهِ وهو القيام بكل الفروض بإيمان وإحتساب مهما كانت شاقة ومهما احتاجت من تضحيات.
والنوع الثاني من الصبر: هو صبرٌ عن معصية الله. وهو كف النفس عن اتباع الهوى والتقيد بحكم الله تعالى في كل الأفعال وترك المحرمات والابتعاد عن كل الإغراءات في الدنيا وكبح الشهوات صبراً عليها.
اما النوع الثالث: صبر على الإبتلاءات والفتن، والرضاء بقضاءِ اللهِ تعالى وقدرِه. فهذا من عزم الأمور وإستقامة الحياة. وقد ضربَ سيدُنا أيوبُ عليه الصلاة والسلام أروعَ الأمثالِ في الصبر. فقد كان من الأغنياءِ، صاحبَ ثروةٍ ومالٍ وبنين، وكان يملكُ أراضٍ واسعةً وحقولاً وبساتينَ، وقد رزقه الله النعمةَ والرخاءَ فآتاه الغنى والصحةَ وكثرةَ الأهلِ والولد، فكان عبداً تقياً ذاكراً شاكراً ولم تَفتنه الدنيا ولم تخدعه، ثم ابتلاه اللهُ بسلبِ تلك النعمة، ففقد المالَ والأهلَ والولدَ ونشبت به الأمراضُ المضنيةُ الكثيرةُ لمدةِ ثَمانِيَ عشرةَ عاماً، فصبر على البلاءِ وحمدَ اللهَ وأثنى عليه، وصبر صبراً شديداً وما زال ثابتاً على حاله تقياً عابداً راضياً عنْ ربِّهِ جلَّ وعَلا، فكانَ بذلك عليه الصلاة والسلام فِي حالتَيِّ الرخاءِ والبلاءِ، شاكراً وصابراً ومثالا لعبادِ الله الصالحينَ في إرضاءِ الرحمنِ. والصبرُ أبرزُ الأخلاقِ الواردِ ذكرُها في القرآنِ الكريم، ومَا ذلكَ إلا لدَوَرانِ كلُّ الأخلاقِ عليهِ وصدورِها منهُ، فكلَّما قلبتَ خُلُقاً أو فضيلةً وجدْتَ أساسَها وركيزتَها الصَّبرَ، فالقناعةُ صبرٌ عَلى القَدرِ الكافِي منَ الدُّنيا، والحِلْمُ صبرٌ عنْ إجابةِ دواعِي الغضب، والوقارُ صبرٌ عنِ العجلةِ والطيشِ، والشجاعةُ صبرٌ عنِ الفرارِ والهربِ.
فإذا كانَ هذَا شأنُ الصبرِ معَ كلِّ الناسِ، فأهلُ الإيمانِ أشدُّ الناسِ حاجةً إليهِ؛ لأنَّهُم يتعرضونَ للبلاءِ والأذَى والفتنِ، ورُسُلُ اللهِ – صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِم- أشدُّ أهلِ الإيمانِ حاجةً إلى الصبرِ، لأنَّهُم الذينَ يقومونَ أساساً بالدعوةِ ويجابهونَ الأممَ بالتغييرِ، و يقولُ رسولُ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم: أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ ثُمَّ الأمثلُ فالأمثل” (رواه احمد والترمذي). ومن يتبع هذه الخطوات المباركة من حملة الدعوة يلاقون ما لاقاه الأنبياء من عقبات وابتلاءات، فعلى حامل الدعوة أن يكون دائماً صابراً صبر المحتسب والمتوكل على الله تعالى، حتى يمن الله تعالى على الأمة بالنصر.
فحُكْمُ الصبرِ أنَّه واجبٌ في حقِّ المؤمنِ، فما بالكم بحامل الدعوة الذي يأخذ بيد هذه الأمة ليخرجها من الظلمات إلى النور، ويدلُّ عَلى أن الصبر فرض على المؤمن قولُه تعالَى:”وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ” (البقرة 45). ويقولُ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّم: “إنَّ عِظمَ الجزاءِ معَ عِظَمِ البلاءِ وإنَّ الله تعالَى إذا أحبَّ قوماً ابتلاهُم فمَنْ رضيَ فلهُ الرِضَا ومنْ سَخِطَ فلهُ السُّخط” (الترمذي).
وهكذا ايها المسلمون فالصبر نعمةٌ عظيمة نجد أن الله تعالَى قرنَهُ بأركانِ الإسلامِ وقِيَمِه ومُثُلِهِ العُليَا، فمثلاً قرنَهُ الله تعالى بالصلاةِ وأمر المؤمنين بالإستعانة به،وقرنَهُ سبحانه بالأعمالِ الصالحةِ عموماً وكما جعلَه عز وجل قرينَ التَّقوى وجعله قرينَ الشكرِ، وأيضاً جعله قرينَ الحقِّ وأيضاً جعله قرينَ اليقين وأيضاً جعله قرينَ التَّوكلِ وكما جعله سبحانه قرينَ التسبيحِ والاستغفارِ، جعله أيضا قرين الجهادِ. ومنْ فضائِلِه الكثيرةِ أنْ علَّقَ الله الفلاح به وحدِه. وفيهِ جاءَ الإخبارُ عنْ مضاعفةِ أجرِ الصَّابرينَ عَلَى غيرِهم، وعُلِّقَتِ الإمامةُ في الدينِ بهِ فقد ربط الله تعالى النصرَ بالصبرِ والتقوى، وجعلَهم جل وعلا جنةً عظيمةً منْ كيدِ العدو ومكره. وايضا فيه أنَّ سبحانَه قد جعلَ محبَّتَه للصابرينَ ، وكما رتَّبَ المغفرةَ والأجرَ الكبيرَ عَلى الصَّبرِ والعملِ الصالحِ أيضاً حكمَ بالخسرانِ التامِّ عَلى كلِّ منْ لَم يؤمنْ ولم يعملِ الصالحاتِ، ولم يكنْ منْ أهلِ الحقِّ وأهل الصبر:”وَالْعَصْرِإِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ” سورة العصر.صدق الله العظيم. يقولُ الإمامُ الشافعيُّ رحِمه الله عن هذه الآيات المباركات :”لو فكرَ الناسُ كلُهم في هذهِ الآيةِ لوسِعَتْهُم، وذلكَ أنَّ العبدَ كمالُه في تكميلِ قوَّتَيهِ: قوةُ العلمِ، وقوةُ العملِ، وهُما: الإيمانُ والعملُ الصالِحُ، وكما هوَ محتاجٌ لتكميلِ نفسِه، فهوَ محتاجٌ لتكميلِ غيرِه، وهوَ التواصِي بالحقِّ، وقاعدةُ ذلكَ وساقُه إنَّما يقومُ بالصبرِ”. ورحِمَ الله تعالى شيخنَا ابنَ القيمِ الذي وصفَ الإيمانَ بأنَّه نصفانِ: صبرٌ وشكرٌ.
فأمرُ المؤمنِ في هذهِ الدنيا كلُّهُ خيرٌ ولا يسوؤُه ما فاتَه فيهَا، ولا يفرحُ بِما آتاهُ الله تعالى فرحاً يلهيه عن العبادة.
ولأنَّ حالَ الناسِ متقلبٌ فسنة الحياة أن تتغير الأحوال والظروف، فكان لا بدَّ للمسلمِ أن يتسلَّحَ بالإسلامِ وأحكامه الشرعية ويعيشَ بهِا كأسلوبٍ كاملٍ للحياةِ. ومنْ الأسلحةِ العقيدة الراسخة وأقواها سلاحُ التوكلِ عَلى الله تعالى في كل الأحوال، ثم إتخاذُ الأسبابِ والقيامُ بالمطلوبِ منَ الأعمالِ المفروضة عليه ثُمَّ الصبر وجهادُ النفسِ بالثبات على الحق. فالصبرِ يؤدي للتحصل على أعظمِ النتائجِ ألا وهِيَ الفوزُ برضَى المولَى عزَّ وجلَّ والجنانِ في الآخرةِ. حينها فقط تتحقَّقُ الأهدافُ العظيمة والتي كانت اول الأمر شبه مستحيلة وغير ممكنة، وتُنجَزُ الأعمالُ الجليلةُ مِنْ قِبَلِ الأفرادِ والمجتمعاتِ والدولِ.
وكمَا قالَ رسولُ الله عليهِ الصلاةُ والسلامُ ” اللهمَّ اجعلْنَا منَ الصابرينَ والصالحينَ ” اللهمَ آمينَ آمينَ وإلى لقاء آخر قريب أترككم في طاعة الله عز وجل والسلامُ عليكُم ورحمةُ الله تعالَى وبركاتُه.