سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة الرابعة والأربعون: طرق التواتر المعنوي – ج1
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنا
حين نقول: تواترٌ معنويٌ، فإننا نستمده من عمليةِ نقلٍ بلغت التواتر، تأتي من خلال الاستقراء،
والاستقراء كما قال فيه الشاطبي: “هكذا شأنه؛ فإنه تصفُّح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكمٌ عامٌ، إما قطعي، وإما ظني، وهو أمر مُسَلَّمٌ عند أهل العلوم العقلية والنقلية”[1]
والنقل المفيد للتواتر المعنوي على ثلاثة ضروب:
أولها: إما من خلال نقل مجموعة أخبار آحاد، (روايات حديث)
وثانيها: أو من خلال نقلٍ عمليٍ جماعيٍ أفادَ معنىً معيناً،
وثالثها: أو باستقراء تضافر اشتراك أدلة في أداء معنى واحد،
أما الضرب الأول: فالأخبار، فأن يؤتى فيها بذكر معنى مشترك بالاستقراء يستمد من الصيغ ومعاني تلك الصيغ، أي أَنْ يَتَوَاتَرَ “المَعْنَى الْمُشْتَرَكُ” بِطَرِيقِ اللُّزوم فِي ضِمْنِ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، بحيث تسد اجتماع تلك الأخبار على معنى مشترك فجوة الظنية التي في الآحاد، فيؤخذ التواتر المعنوي، بشروط أربعة:
الشرط الأول: بلوغ جمع من الرواة لآحاد الأخبار مبلغاً يستحيل معه اتفاقهم على الكذب[2]، أي أنك لو درست مجموع الأخبار دراستك لحديث متواتر واحد، وجدت العدد في مجموعها مما يحيل اتفاق رواة كل الأخبار على الكذب، ووجود التواتر في كل الطبقات التي روت الأحاديث بنفس الطريقة التي تحققنا فيها من بلوغ جمع الرواة مبلغا يستحيل معه اجتماعهم على الكذب،
الشرط الثاني: بِأَنْ يَتَوَاتَرَ مَعْنًى فِي ضِمْنِ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ فِيهِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، لَكِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ مُتَحَصّل بالاستقراء بَيْنَهَا يفيد دلالة على المعنى بِجِهَةِ التَّضَمُّنِ أَوْ الالْتِزَامِ.
قال محمد النجار الفتوحي في شرح الكوكب المنير: وَأَمَّا التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ مِنْ السُّنَّةِ، وَهُوَ بِأَنْ يَتَوَاتَرَ مَعْنًى فِي ضِمْنِ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ فِيهِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ فَكَثِيرٌ (وَ) قِسْمٌ (مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ تَغَايُرُ الأَلْفَاظِ مَعَ الاشْتِرَاكِ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ) وَلَوْ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَلِكَ (كَحَدِيثِ الْحَوْضِ، وَسَخَاءِ حَاتِمٍ) وَشُجَاعَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهَا. وَذَلِكَ إذَا كَثُرَتْ الأَخْبَارُ فِي الْوَقَائِعِ وَاخْتُلِفَ فِيهَا، لَكِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا بِجِهَةِ التَّضَمُّنِ أَوْ الالْتِزَامِ، حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ مَثَلا الشَّجَاعَةُ أَوْ الْكَرَمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيُسَمَّى الْمُتَوَاتِرَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَذَلِكَ كَوَقَائِعِ حَاتِمٍ فِيمَا يُحْكَى مِنْ عَطَايَاهُ مِنْ فَرَسٍ وَإِبِلٍ وَعَيْنٍ وَثَوْبٍ وَنَحْوِهَا. فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ جُودَهُ فَيُعْلَمُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْقَضَايَا بِعَيْنِهِ، وَكَقَضَايَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حُرُوبِهِ مِنْ أَنَّهُ هَزَمَ فِي خَيْبَرَ كَذَا وَفَعَلَ فِي أُحُدٍ كَذَا، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِالالْتِزَامِ عَلَى شُجَاعَتِهِ.[3]
الشرط الثالث: أن يكون المعنى عاما غير مخصَّصٍ، مطلقا من غير تقييد، وأن يفيد ذلك المعنى أي يتوارد على شيء واحد، لا مجموعة أشياء متفرقة لا تدل على ذلك المعنى بدلالة التضمن أو الالتزام، قال الشاطبي: “والثاني: أن التواتر المعنوي هذا معناه، فإن جود حاتم مثلاً إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد، وعلى العموم من غير تخصيص، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر، مختلفة في الوقوع، متفقة في معنى الجود، حتى حصّلت للسامع معنى كلياً حكم به على حاتم، وهو الجود، ولم يكن خصوص الوقائع قادحاً في هذه الإفادة،[4]
الشرط الرابع: أن لا يعارض المعنى المستفادُ من التواتر دليلا قطعيا سواء أتعارض بالكلية مع الدليل، أم استفدنا من الدليل القطعي معاني تعارضت مع أو قدحت في المستفاد من التواتر المعنوي وأثارت حوله علامات شك، تهبط به عن درجة القطع. (فلا بد أن يتوافق المعنى مع المستفاد من الأدلة القطعية، فمثلا أخبار الآحاد التي استفدنا منها القول بعذاب القبر نزلت عن درجة التواتر المعنوي قليلا بسبب تعارضها مع ما قد تؤديه بعض الآيات من معان نحتاج معها إلى التأويل والتعليل الذي يعسر معه فهمها على ما هي عليه بشكل يفضي للقطع، مثل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 55 – 56][5]، وهذا نوع يدخل تحت ما سماه الشاطبي: ” ولم يكن خصوص الوقائع قادحاً في هذه الإفادة”
ملاحظة مهمة: في التواتر اللفظي كما وفي المعنوي نرى أن بلوغ الجمع حدا يحيل اجتماعهم على الكذب يحتاج أن تضاف له شروطٌ حتى يفيد اليقين سواء في التواتر اللفظي، أو في التواتر المعنوي إذ في المعنوي يحتاج لعدم المعارضة الواردة في رابعا أعلاه، وذلك لأنهم لم يجتمعوا على رواية حديث واحد حتى يقال: يفيد القطع بعددهم، بل بروايات مختلفة كل رواية فيها ما فيها من دوافع الظنية، وكذلك في التواتر اللفظي، لا يكفي شرط بلوغ العدد حدا يستحيل معه تواطؤهم على الكذب ليفيد القطع، بل يجب أن يضاف إليه شروط أخرى منها أن يكونوا عالمين بما أخبروا به، وأن يعلموا ذلك عن ضرورة من مشاهدة أو سماع، فتنبه لهذا يرحمك الله!
قال الشاطبي في الموافقات: والثاني: أن التواتر المعنوي هذا معناه، فإن جود حاتم مثلاً إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد، وعلى العموم من غير تخصيص، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر، مختلفة في الوقوع، متفقة في معنى الجود، حتى حصّلت للسامع معنى كلياً حكم به على حاتم، وهو الجود، ولم يكن خصوص الوقائع قادحاً في هذه الإفادة،[6].
[1] الموافقات للشاطبي كتاب الأدلة الشرعية
[2] فمثلا: روايات عذاب القبر بلغت في عصر الصحابة حوالي سبعين حديثا بمختلف رواياتها، رواها حوالي ستة وعشرون صحابيا
[3] محمد النجار الفتوحي في شرح الكوكب المنير باب في الإجماع
[4] الموافقات للشاطبي كتاب الأدلة الشرعية
[5] راجع كتابنا: أدلة الاعتقاد ففيه فصل كامل حول هذه الآيات وهذه المسألة
[6] الموافقات للشاطبي كتاب الأدلة الشرعية
2018_05_00_Khilafah_and_Imamate_in_Islamic_Thought_44_AR_OK.pdf