مع الحديث الشريف – الدِّينُ النَّصِيحَةُ
عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ” رواه مسلم
جاء في صحيح مسلم بشرح النووي بتصرف يسير:” هَذَا حَدِيث عَظِيم الشَّأْن وَعَلَيْهِ مَدَار الْإِسْلَام. وَأَمَّا شَرْح هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه:وَمَعْنَى الْحَدِيث : عِمَاد الدِّين وَقِوَامه النَّصِيحَة. كَقَوْلِهِ : الْحَجُّ عَرَفَة أَيْ عِمَاده وَمُعْظَمه عَرَفَة. وَأَمَّا تَفْسِير النَّصِيحَة وَأَنْوَاعهَا فَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء فِيهَا كَلَامًا نَفِيسًا أَنَا أَضُمّ بَعْضه إِلَى بَعْض مُخْتَصَرًا. قَالُوا :
أَمَّا النَّصِيحَة لِلَّهِ تَعَالَى فَمَعْنَاهَا مُنْصَرِفٌ إِلَى الْإِيمَان بِهِ, وَنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهُ, وَتَرْكِ الْإِلْحَاد فِي صِفَاته وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَال وَالْجَلَال كُلّهَا, وَتَنْزِيهه سُبْحَانه وَتَعَالَى مِنْ جَمِيع النَّقَائِص, وَالْقِيَام بِطَاعَتِهِ, وَاجْتِنَاب مَعْصِيَته, وَالْحُبّ فِيهِ, وَالْبُغْض فِيهِ, وَمُوَالَاة مَنْ أَطَاعَهُ, وَمُعَادَاة مَنْ عَصَاهُ, وَجِهَاد مَنْ كَفَرَ بِهِ, وَالِاعْتِرَاف بِنِعْمَتِهِ, وَشُكْره عَلَيْهَا, وَالْإِخْلَاص فِي جَمِيع الْأُمُور, وَالدُّعَاء إِلَى جَمِيع الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة, وَالْحَثّ عَلَيْهَا, وَالتَّلَطُّف فِي جَمْع النَّاس, أَوْ مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ عَلَيْهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحْمه اللَّه: وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَة رَاجِعَة إِلَى الْعَبْد فِي نُصْحه نَفْسه, فَاَللَّه تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ نُصْحِ النَّاصِح.
وَأَمَّا النَّصِيحَة لِكِتَابِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى فَالْإِيمَان بِأَنَّهُ كَلَام اللَّه تَعَالَى وَتَنْزِيله, لَا يُشْبِههُ شَيْءٌ مِنْ كَلَام الْخَلْق, وَلَا يَقْدِر عَلَى مِثْله أَحَد مِنْ الْخَلْق, ثُمَّ تَعْظِيمه وَتِلَاوَته حَقّ تِلَاوَته, وَتَحْسِينُهَا وَالْخُشُوع عِنْدهَا, وَإِقَامَة حُرُوفه فِي التِّلَاوَة, وَالذَّبّ عَنْهُ لِتَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ وَتَعَرُّض الطَّاعِنِينَ, وَالتَّصْدِيق بِمَا فِيهِ, وَالْوُقُوف مَعَ أَحْكَامه, وَتَفَهُّم عُلُومه وَأَمْثَاله, وَالِاعْتِبَار بِمَوَاعِظِهِ, وَالتَّفَكُّر فِي عَجَائِبه, وَالْعَمَل بِمُحْكَمِهِ, وَالتَّسْلِيم لِمُتَشَابِهِهِ, وَالْبَحْث عَنْ عُمُومه وَخُصُوصه وَنَاسِخه وَمَنْسُوخه , وَنَشْر عُلُومه , وَالدُّعَاء إِلَيْهِ وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَصِيحَته .
وَأَمَّا النَّصِيحَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصْدِيقه عَلَى الرِّسَالَة, وَالْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ , وَطَاعَته فِي أَمْرِهِ وَنَهْيه, وَنُصْرَتِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا, وَمُعَادَاة مَنْ عَادَاهُ, وَمُوَالَاة مَنْ وَالَاهُ, وَإِعْظَام حَقّه, وَتَوْقِيره, وَإِحْيَاء طَرِيقَته وَسُنَّته, وَبَثّ دَعَوْته, وَنَشْرِ شَرِيعَته, وَنَفْي التُّهْمَة عَنْهَا, وَاسْتِثَارَة عُلُومهَا, وَالتَّفَقُّه فِي مَعَانِيهَا , وَالدُّعَاء إِلَيْهَا, وَالتَّلَطُّف فِي تَعَلُّمهَا وَتَعْلِيمهَا, وَإِعْظَامهَا, وَإِجْلَالهَا, وَالتَّأَدُّب عِنْد قِرَاءَتهَا, وَالْإِمْسَاك عَنْ الْكَلَام فِيهَا بِغَيْرِ عِلْم, وَإِجْلَال أَهْلهَا لِانْتِسَابِهِمْ إِلَيْهَا, وَالتَّخَلُّق بِأَخْلَاقِهِ, وَالتَّأَدُّب بِآدَابِهِ, وَمَحَبَّة أَهْل بَيْته وَأَصْحَابه , وَمُجَانَبَة مَنْ اِبْتَدَعَ فِي سُنَّته , أَوْ تَعَرَّضَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابه, وَنَحْو ذَلِكَ .
وَأَمَّا النَّصِيحَة لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ….قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه : وَمِنْ النَّصِيحَة لَهُمْ الصَّلَاة خَلْفهمْ, وَالْجِهَاد مَعَهُمْ, وَأَدَاء الصَّدَقَات إِلَيْهِمْ, وَتَرْك الْخُرُوج بِالسَّيْفِ عَلَيْهِمْ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ حَيْفٌ أَوْ سُوءُ عِشْرَة, وَأَنْ لَا يُغَرُّوا بِالثَّنَاءِ الْكَاذِب عَلَيْهِمْ, وَأَنْ يُدْعَى لَهُمْ بِالصَّلَاحِ. وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْخُلَفَاء وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يَقُوم بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَاب الْوِلَايَاتِ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور. وَحَكَاهُ أَيْضًا الْخَطَّابِيُّ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُتَأَوَّل ذَلِكَ عَلَى الْأَئِمَّة الَّذِينَ هُمْ عُلَمَاء الدِّين, وَأَنَّ مِنْ نَصِيحَتهمْ قَبُول مَا رَوَوْهُ, وَتَقْلِيدهمْ فِي الْأَحْكَام, وَإِحْسَان الظَّنِّ بِهِمْ .
وَأَمَّا نَصِيحَة عَامَّة الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مَنْ عَدَا وُلَاة الْأَمْر فَإِرْشَادهمْ لِمَصَالِحِهِمْ فِي آخِرَتهمْ وَدُنْيَاهُمْ, وَكَفّ الْأَذَى عَنْهُمْ فَيُعَلِّمهُمْ مَا يَجْهَلُونَهُ مِنْ دِينهمْ, وَيُعِينهُمْ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل, وَسِتْر عَوْرَاتهمْ, وَسَدّ خَلَّاتهمْ , وَدَفْع الْمَضَارّ عَنْهُمْ, وَجَلْب الْمَنَافِع لَهُمْ, وَأَمْرهمْ بِالْمَعْرُوفِ, وَنَهْيهمْ عَنْ الْمُنْكَر بِرِفْقٍ وَإِخْلَاصٍ, وَالشَّفَقَة عَلَيْهِمْ, وَتَوْقِير كَبِيرهمْ, وَرَحْمَة صَغِيرهمْ , وَتَخَوُّلهمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة, وَتَرْك غِشِّهِمْ وَحَسَدِهِمْ, وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْر, وَيَكْرَه لَهُمْ مَا يَكْرَه لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَكْرُوه, وَالذَّبّ عَنْ أَمْوَالهمْ وَأَعْرَاضهمْ, وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالهمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل, وَحَثّهمْ عَلَى التَّخَلُّق بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْوَاع النَّصِيحَة, وَتَنْشِيط هَمِّهِمْ إِلَى الطَّاعَات . وَقَدْ كَانَ فِي السَّلَف رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ مَنْ تَبْلُغ بِهِ النَّصِيحَة إِلَى الْإِضْرَار بِدُنْيَاهُ .
هَذَا آخِر مَا تَلَخَّصَ فِي تَفْسِير النَّصِيحَة . قَالَ اِبْن بَطَّال – رَحِمَهُ اللَّه – فِي هَذَا الْحَدِيث : أَنَّ النَّصِيحَة تُسَمَّى دِينًا وَإِسْلَامًا وَأَنَّ الدِّين يَقَع عَلَى الْعَمَل كَمَا يَقَع عَلَى الْقَوْل . قَالَ : وَالنَّصِيحَة فَرْضٌ يَجْزِي فِيهِ مَنْ قَامَ بِهِ, وَيَسْقُط عَنْ الْبَاقِينَ . قَالَ : وَالنَّصِيحَة لَازِمَة عَلَى قَدْر الطَّاقَة إِذَا عَلِمَ النَّاصِحُ أَنَّهُ يُقْبَل نُصْحه, وَيُطَاع أَمْرُهُ, وَأَمِنَ عَلَى نَفْسه الْمَكْرُوه. فَإِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسه أَذًى فَهُوَ فِي سَعَةٍ . وَاَللَّه أَعْلَم.”
مستمعينا الكرام رحم الله الإمام النووي لم يبق لنا ما نضيف سوى أن حكام هذا الزمان ليسوا بحكام شرعيين وعليه فلا يجب لهم علينا طاعة ولا نصح، ولا ينطبق قول النووي عليهم فجزاه الله عنا خير الجزاء