الدكتوراه في الطب… هل أصبحت في تونس شهادة صورية؟!
شهادة الدكتوراه من أعلى شهادات التخصّص في مختلف العلوم الدنيوية كالطب والهندسة والاقتصاد وغيرها، إذ يتطلب الحصول على هذه الشهادة دراسة مرحلة جامعية متقدمة يقوم خلالها الطالب بإنجاز بحث علمي (أطروحة) حسب اختصاصه ثم مناقشة أطروحته العلمية من لجنة أكاديمية مختصة، لذلك يعتبر حامل لقب “الدكتوراه” بمثابة حامل لواء البحث العلمي.
وفي مجال العلوم الطبية تُمثل الدكتوراه درجة مهنية تؤهل المتحصل عليها ممارسة التطبيب، فضلا عن كونها درجة أكاديمية منسوبة للبحوث الطبية، لكن في تونس أصدرت سلطة الإشراف على الدراسات الطبية قرارا يمس بشكل صريح من مفهوم “الدكتوراه في الطب”، ووضعته موضعا قانونيا أدنى من رمزيته العلمية القيّمة.
إذ ينص الفصل 43 من الأمر الحكومي المؤرخ في 10 نيسان/أبريل 2019 المتعلق بضبط الإطار العام لنظام الدراسة:
“تمنح كليّة الطبّ المعنيّة الطّالب الّذي ناقش بنجاح الأطروحة، شهادة دكتور في الطبّ. ولا تخوّل شهادة دكتور في الطبّ ممارسة الطبّ إلا بالمؤسّسات الصحيّة والاستشفائيّة العموميّة وبإشراف رئيس القسم وتحت مسؤوليّته”.
كل ما يعنيه هذا القرار الحكومي الجديد أن درجة “دكتور في الطب” لا تُمكّن كصيغة كافية من ممارسة المهنة في تونس بصفة مستقلة، وهذا رغم كل ما تحمله هذه الدرجة الأكاديمية من اعتبار علمي واعتراف عالمي بمؤهلات صاحبها، فرتبة “دكتور في الطب” تستند إلى عرف مشترك بين مختلف الأوساط الأكاديمية في العالم. لكن في تونس وفي ظل الحكومة الحالية تُصبح الدكتوراه في الطب درجة صورية على مستوى قانون المهنة… لأن القانون التونسي لا يجيز للطبيب الدكتور المتخرج من منظومة الدراسات الطبية الجديدة الممارسة “الشاملة” لمهنته، وبالتالي يصبح الطبيب الدكتور لا يتمتع باستقلالية قراره لإسناد العلاج.
هكذا أصبحت الدكتوراه في الطب في تونس، مجرد عنوان صوري مسلوب القيمة على مستوى المهنة… وخير دليل على هذا الوصف أن الحال المهني لحامل شهادة الدكتوراه في الطب أصبح بعد صدور الأمر الحكومي الجديد كالحال المهني للمتربص في الطب، طالما لم يتحصل الطبيب الدكتور على شهادة تخصص طبي فوق درجة الدكتوراه.
أفلا يجدر إذن أن نتساءل، هل أصبحت الدكتوراه في الطب في تونس شهادة صورية؟!
ومهما كان حال هذه الشهادة في تونس، فإنها تبقى خارج تونس صالحة (على الأرجح) كبطاقة عبور للهجرة بالنسبة للأطباء التونسيين الراغبين في ممارسة المهنة خارج البلاد. لأن الدول الأوروبية تستقطب الأطباء الأجانب درجة “دكتور في الطب” كدرجة كافية لقبول انتدابهم في مستشفياتها. مع أن تلك الدرجة أصبحت اليوم لا تستند إلى صيغة قانونية كافية لممارسة المهنة على التراب التونسي! أفلا يجدر أن نتساءل مرة أخرى، هل الأمر الحكومي الجديد (الفصل 43) على صلة بظاهرة هجرة الأطباء خارج تونس؟!
لا شك أن القانون المنظم للدراسات الطبية ينبثق عن سياق سياسي أشمل من معاني النص القانوني المجرد، فمنظومة الدراسات الطبية الجديدة أثارت سلسلة من التحركات الاحتجاجية لطلبة الطب في تونس منذ شباط/فبراير 2018، لأن حقيقة هذه المنظومة الجديدة أنها تحتوي على أحكام “مسقطة” قررتها المنظمة العالمية للصحة في شأن قطاع الصحة في تونس، فقد عقدت المنظمة العالمية للصحة (فرع منظمة الأمم المتحدة) مجموعة من الاجتماعات الرسمية مع سلطة الإشراف في تونس للبحث عن سبل إعادة هيكلة المنظومة الطبية وذلك منذ سنة 2004، ثم أفرزت الاجتماعات مشروعا قانونيا أثار جدلا مستمرا في محيط طلبة الطب كما لدى الأساتذة الجامعيين منذ أول محاولة لتطبيق المشروع وتنفيذ أحكامه بداية سنة 2017.. ولعل أبرز ما أثار الجدل هو قرار حذف شهادة “دكتور في الطب” من قائمة الشهادات العلمية التي تمنحها الجامعة التونسية، لكي يتم لاحقا التراجع عن قرار الحذف لما لقيه القرار من تنديد واحتجاج شديدين لدى عموم طلبة الطب.
لذلك نفهم من الحيثيات السابقة أن صدور الفصل 43 من الأمر الحكومي الجديد ليس إلا فصلا جديدا من مراوغة مستمرة تنتهجها السلطة حين تعاملها مع ضغط الاحتجاجات المعارضة لقراراتها لا سيما بخصوص حذف شهادة “دكتور في الطب”، لكي تبقى تلك الشهادة على منحى قانوني يجعلها شهادة شبه محذوفة ومفرغة من مضمونها!
نُذكر أخيرا بحجم “المراوغة” التي تلتجئ إليها السلطة في تونس لتمرير وتنفيذ ما تقرره المنظمات الغربية بخصوص الشأن العام التونسي ومنه الشأن الأكاديمي الذي اتضح أنه رهينة الموقف الدولي… فحتى شهادة الدكتوراه لم تَسلم من الارتهان للسياسات الخارجية!
ختاما، ندعو الأكاديميين في كافة المجالس العلمية والجامعات بتونس إلى إدراك خطورة الوضع وعواقبه ومزيد الاحتراز من قرارات المنظمات الغربية لا سيما أن الشأن الأكاديمي شأن حيادي قائم على المعارف العلمية والبيداغوجية غير المرتهنة في الأصل لمقاربات سياسية، والدول الغربية لا زالت تعمل لتوظيف الوسط الأكاديمي لصالح سياساتها الاستعمارية ومصالحها الخاصة، فالغرب يسعى جاهدا لاستقطاب علماء تونس ومبدعيها عبر برامج “أيديولوجية” ذات غطاء أكاديمي تحظى بتمويل دولي ضخم ونشاط عمل عابر للحدود يجتاح جل الأوساط الأكاديمية في العالم من طلبة وأساتذة وأكاديميين.. فهذه الهيمنة الغربية الخبيثة تسللت إلى كافة أقطار العالم الإسلامي بذريعة التعاون الدولي والتبادل المعرفي… مما يوضح عمق الصراع الحضاري بين أمتنا الإسلامية والغرب الكافر المستعمر. إذ كل ما يخشاه العالم الغربي هو أن تتوحد البلاد الإسلامية بكل ما تملكه من مقدرات طبيعية وبشرية كقوة دولية جديدة تغير الموقف الدولي في ظل دولة إسلامية موحدة تؤثر بمبدئها وتستقطب الطاقات العلمية من كافة أرجاء العالم من أطباء ومهندسين ومخترعين…
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46]
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
مراد معالج
عضو حزب التحرير وطالب بكلية الطب بصفاقس مرحلة ثالثة من الدراسات الطبية
2019_04_25_Art_PhD_in_Medicine_certificate_in_Tunisia_AR_OK.pdf22.pdf