الإسلام ليس مرناً فيُطوى ولا متطوراً فيتغير
لقد شاءت إرادة الله وحكمته أن يكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن تكون رسالته رسالة عالمية خالدة للبشرية جمعاء، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾، وأن يكون هذا الدين هو الحق الذي يزهق به الباطل، والخير الذي يدحض به الشر، يقول الطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ (يعني تعالى ذكره بقوله ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالبيان الواضح، وَدِين الحَق، وهو الإسلام، الذي أرسله داعيا خلقه إليه ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ يقول: ليبطل به الملل كلها، حتى لا يكون دين سواه، وذلك كان كذلك حتى ينـزل عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، فحينئذ تبطل الأديان كلها، غير دين الله الذي بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم، ويظهر الإسلام على الأديان كلها. وقوله ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ يقول جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: أشهدك يا محمد ربك على نفسه، أنه سيظهر الدين الذي بعثك به ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ يقول: وحسبك به شاهدا.)
وقد أكمل الله دينه وأتمَّ رسالته تماماً يرفع عنها النقص والاحتياج إلى مكمل أو مبتدع، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾. فأحكام الإسلام وتشريعاته، جاءت تلبي احتياجات الإنسان من حيث هو إنسان وتنظم وتعالجُ جميع جوانبِ حياته، فتنظم علاقته بربه من خلال العقيدة والعبادات، وتنظم علاقته بنفسه من خلال المطعومات والملبوسات، وعلاقته بغيره من بني الإنسان كالحكم والمعاملات والزواج والميراث والقضاء…
وقد قامت عقيدة الإسلام وتشريعاته على المفاصلة بين الحق والباطل، والسعي إلى تغيير المجتمعات بما فيها من عقائد وأفكار وعادات وأنظمة فاسدة تغييراً جذرياً دون ترقيع أو محاباة أو انخراط في الواقع، فالرسول صلى الله عليه وسلم منذ أول يوم بدأ فيه بنشر دعوته، خاطب الناس بحزم وثقة، وواجه الكفر والكفار بقوة وجرأة وصرامة تامة وعرض دعوة متحدية سافرة، فبدأ القرآن ينزل مسفهاً أحلام الكفار، يعيب عليهم آلهتهم، ويشين طريقة عيشهم البالية، ويستهزئ بأعرافهم وتقاليدهم. فهو حين تناول الأصنام نراه يقول: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾، وحين يتناول تقليدهم الأعمى لآبائهم وتقديسهم لما ورثوه عنهم نراه يقول: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾، وحين تناول العلاقات الفاسدة، نراه يتكلم عن تطفيف الكيل فيقول: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ وحين حاول الكفار مساومته صلى الله عليه وسلم، فعرضوا عليه أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة جاء الرد من الوحي حازماً ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾. وحين عرضوا عليه صلى الله عليه وسلم العروض من أجل أن يتخلى عن دعوته جاء الرد حاسماً: «يَا عَمُّ، وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ». وحين قبلت بعض القبائل أن تنصره في إقامة الدولة مقابل أن يكون لها الحكم من بعده لم يقبل منها…
فشرع ربِّ العالمين لا يخضع للمساومة على تطبيقه وسيادته، وأحكام الإسلام ليست مرنة يتم تطويعها لتوافق الواقع وتلبي المصلحة فيؤخذ بعضها ويُترك الآخر ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، وأحكام الإسلام ليست متطورة ليطرأ عليها التغيير والتبديل كلما تبدلت وتغيرت الظروف، فيتغير حكم الله وتشريعه بتغير الزمان أو المكان، وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا المعنى، ولم يقبلوا المساومة على تطبيق أحكام الله، فهذا أبو بكر الصديق يخوض حرباً ضد المرتدين، ويقول “والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها”. وليس معنى ذلك أن الإسلام لا يوجد فيه حلول للمشاكل المستجدة التي توجد في حياة البشر، بل إنَّ الشريعة جاءت بنصوص وأحكام يغلب عليها العموم والإطلاق أكثر من الخصوص والتقييد، وبذلك يستطيع المجتهدون استنباط أحكام شرعية منها للمسائل المستجدة بعد دراسة واقعها.
وليس الإسلام متعدداً مقسماً إلى متطرف ومعتدل، بل الإسلام الذي أنزله الله على نبيه واحد وأحكامه واضحة مبينة في الكتاب والسنة، وإنما هذه التسميات جاءت لتضليل الناس وحرفهم عن دينهم الحق، “فالإسلام المعتدل” يراد به أن يكون إسلاماً على مقاس الدول الغربية ولا سيما أمريكا، فيكون ديناً كهنوتيا روحيا، ولا ينبثق عنه نظام ودولة، ويقبل أن يكون التشريع للبشر لا لرب البشر، و”الإسلام المتطرف” يراد به تشويه صورة الإسلام وإلصاق القتل والخراب والدمار به لتنفير الناس منه، وكذلك تشويه صورة المسلم المتمسك بأحكام ربه الذي لا يقبل المساومة عليها ولا المداهنة فيها.
إنهم يريدون من خلال ترويج هذه المفاهيم المضللة للإسلام وأحكامه أن تتماهى مع أحكام الكفر، وأن يصبح الإسلام والمسلمون بلا هوية واضحة، وأن لا يعود الإسلام والمسلمون لتسلم زمام الأمور وقيادة العالم من جديد، لأن الكفار يدركون أن عودة الإسلام إلى الحكم في ظل دولة يعني اندثار حضارتهم وانهيار دولهم كما حصل مع فارس والروم من قبل، وأن تصهر الشعوب والأمم في بوتقة الإسلام وتُحكم بأحكامه، وتعود الدولة الإسلامية الدولة الأولى في العالم بلا منازع، ولكنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، وسيتحقق وعد الله لنا بالاستخلاف والتمكين والأمن إن شاء الله، ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
براءة مناصرة