مفاوضات السودان لم تحرز تقدما في شأن السلطة لانسداد أفق الحل المبدئي
منذ إعلان بيان الإطاحة بالبشير في 2019/04/11م، ثم البيان الثاني في الانقلاب الثاني في 2019/04/12م، تحول المسرح السياسي في السودان إلى اتهامات، واتهامات مضادة، ومسيرات، فقد شنّ نائب رئيس المجلس العسكري “حميدتي” هجوماً لاذعاً على قوى إعلان الحرية والتغيير، واتهمها بالسعي إلى احتكار السلطة دون أن يكون لها الثقل والتفويض الجماهيري. واتهم المجلس عناصر منفلتة في الاحتجاجات… وقال إن “ميدان الاعتصام أصبح خطرا على البلد والثوار”. وبات الحديث عن التدابير التي سيتم اتخاذها خلال الفترة المقبلة… وشارك مئات الأشخاص، السبت، وفقا لـ”فرانس برس”، في مسيرة داعمة للمجلس العسكري في الخرطوم، حاملين صوراً لجنرالات المجلس، فيما ردّد آخرون هتافات “مئة بالمئة (حكم) عسكري”… فيما تلوّح قوى الحرية والتغيير بالتوجه نحو عصيان مدني شامل في حال عدم تنفيذ العسكر مطالبها. “وأعلنت تسيير مواكب إلى ميادين الاعتصام في الخرطوم وبقية مدن السودان، أول أيام العيد، وأداء صلاة العيد في مقرات الاعتصام” (العربي الجديد 2019/06/01م).
نعم، لقد انحرف القوم!! وكادوا أن يطيحوا بآمال أهل السودان، وبدأ الالتفاف على الحراك، واحتواؤه يطفو على الساحة، وبرزت عمليات التلاعب بمطالب أهل السودان المتمثلة في رفع الظلم الذي وقع على البلاد والعباد، جراء تطبيق الأنظمة الرأسمالية زهاء الثلاثين عاما الماضية، وما قبلها، فقد تركزت المفاوضات، منذ البداية، على سعي كل طرف للسيطرة على كراسي الحكم في المجلس السيادي الذي لم يُنشأ بعد، دون البحث عن الأساس المبدئي الذي سيحكم البلاد، فانسدّ أفق الحل، ووصل الطرفان إلى حافة الافتراق، فبدأ كل طرف يستعرض عضلاته بالتهديد والوعيد، ويكيل التهم للآخر، حيث تتهم قوى التغيير، المجلس العسكري، بالسعي إلى السيطرة على عضوية ورئاسة مجلس السيادة، بينما يتهمها المجلس بعدم الرغبة في وجود شركاء حقيقيين لها في الفترة الانتقالية.
إن أهل السودان قالوا صراحة في حراكهم هذا (إننا نريد رفع الظلم)، فقد عاشوا الاستعمار الإنجليزي ردحاً من الزمان، تحت وطأة العلمانية. ثم نالوا استقلالهم رمزياً، حيث بقيت أنظمة المستعمر وقوانينه هي السائدة تحت حكم مدني (أحزاب) منذ 1956، ثم حكم عسكري (انقلاب عبود)، ثم انتفاضة أكتوبر 1964م، ثم حكم مدني (أحزاب)، ثم حكم عسكري (انقلاب النميري) ثم انتفاضة 1985م، ثم حكم عسكري انتقالي (سوار الذهب)، ثم حكم مدني (أحزاب)، ثم حكم عسكري (انقلاب البشير وزمرته) منذ العام 1989م، وكل هذه الأنظمة؛ المدنية منها والعسكرية، لم تخرج في حكمها عما وضعه المستعمر الإنجليزي من قوانين ودساتير علمانية، فكان حصاد أهل السودان أن انشطرت البلاد، وذهب الجنوب بأهله وثرواته، فلم يعد السودان مليون ميل مربع كما كان، وهذا عار في جبين القوات المسلحة والقوات النظامية، والمتنفذين من زعماء الأحزاب والقوى السياسية في السودان. وبهذا وقع الجنوب في الحرب الأهلية، كما تضرر أهل الشمال، والنتيجة فقدان السودان ثرواته التي يسيل لها لعاب قراصنة الاقتصاد، وسارقي الثروات في العالم، بل ورث أهل السودان، جراء هذه الأنظمة العلمانية المتعاقبة على الحكم، الفقر، والذل، وفقدان العيش الكريم… فكان لا بد من نظام خارج هذا الإطار العلماني (المدني والعسكري) يضمن للناس حياة كريمة، كان لا بد من نظام فريد لا يشبهه أي نظام، ولا هو يشبه أي نظام، لدولة خاصة متميزة، يختلف عن جميع أنظمة الحكم التي مرت على السودان اختلافاً كلياً، سواء في الأساس الذي تقوم عليه، أو في الأفكار والمفاهيم والمقاييس والأحكام التي تعالج بمقتضاها قضايا العباد والبلاد، أو في الدستور والقوانين التي تضعها هذه الدولة موضع التطبيق والتنفيذ.
إنه الإسلام، ونظام الحكم فيه، (الخلافة)، فكل شيء فيه مرده إلى الله سبحانه، ولا مجال فيه للهوى والرغبة في أمر الحكم، إذ يحرّم أن يكون الحكم بوليسياً، بل هو رعاية شؤون الناس بأحكام الشرع (حصرياً)، وهو غير القوة، فالقوة في الدولة ليست رعاية لشؤون الناس، ولا تصريفاً لأمورهم، أي هي ليست للحكم، بل هي كيان مادي، يتمثل في الجيش ومنه الشرطة، يُنفّذ به السلطان الأحكام، ويقهر به المجرمين والفسقة، ويقمع به الخارجين، ويصد به المعتدين، ويتخذه أداة لحماية الدولة، وما يقوم عليها من مفاهيم وأفكار. ولا يجوز أن يصبح السلطان قوة، فإن السلطان إذا تحوّل إلى قوة فسدت رعايته لشؤون الناس، لأن مفاهيمه ومقاييسه تصبح مفاهيم ومقاييس القهر والقمع والتسلط، وليست مفاهيم ومقاييس الرعاية، ويتحوّل إلى حكم بوليسي، ليس له إلا الإرهاب والتسلط، والكبت، والقهر، وسفك الدماء، وهذا ما يعيشه أهل السودان. روى الترمذي في سننه عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: «سِتَّةٌ لَعَنْتُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَكُلُّ نَبِيٍّ كَانَ، الزَّائِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَالْمُتَسَلِّطُ بِالْجَبَرُوتِ لِيُعِزَّ بِذَلِكَ مَنْ أَذَلَّ اللَّهُ وَيُذِلَّ مَنْ أَعَزَّ اللَّهُ…».
وكما لا يجوز أن يصبح السلطان قوة، كذلك لا يصح أن يكون الجيش حاكماً، لأنه سيحكم الناس بمنطق القوة، ويرعى شؤون الناس بمفاهيم الأحكام العسكرية، ومقاييس القمع والقهر. وهذا بالطبع يسبب الخراب والدمار، ويولّد الرعب والخوف والفزع، وبهذا يهزم الإنسان نفسياً، وينشأ رعايا جبناء، وبناء على ذلك تصل الأمة إلى حافة الهاوية، إذن فلا مجال للمفاوضات والأخذ والرد في موضوع استلام الجيش للحكم، ولا إشراكه في مجلس سيادي ولا غيره، إننا لا نريد أن نحوّل أهل السودان، ومؤسسات الدولة إلى خدم للحاكم وحاشيته كما عهدنا في الأنظمة العلمانية السابقة، فالحاكم البوليسي يدور مع مصلحته الشخصية حيث دارت، ولو كان ذلك يؤدي إلى فقر الناس، وإذلالهم، وقتلهم، وما حكم العسكر في العهود السابقة إلا خير شاهد على ذلك. ثم إن المنادين بالمدنية منذ اندلاع الحراك في السودان، لم يقدموا نهجاً قويماً، ولا غير قويم!! فلم تقدم قوى الحرية والتغيير، ولا غيرهم، برنامجاً مبدئياً صحيحاً ينقذ البلاد والعباد من براثن الأنظمة الوضعية الهالكة، مما يجعل هؤلاء أنفسهم بوليسيين، ديكتاتوريين، بأزياء مدنية، لغياب أفق الحلول المبدئية الصحيحة عن أذهانهم!!
لهذا كان على أهل السودان أن يعلموا أن خلاصهم ليس في حكومة مدنية، ولا في حكومة عسكرية، بل كلاهما علمانيان، إنما خلاصهم فقط في الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، على أنقاض أنظمة الحكم البوليسية البائدة. وعلى الناس جميعاً، وعلى الجيش بخاصة، أن ينصروا حزب التحرير، الذي أعدّ، بمبدأ الإسلام العظيم، رجال دولة أكفاء، ووضع دستوراً معداً للتطبيق والتنفيذ، مستنبطاً باجتهاد صحيح من كتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه، لإقامتها راشدة على منهاج النبوة، فقد أظل زمانها إن شاء الله.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
يعقوب إبراهيم (أبو إبراهيم) – الخرطوم