أسطول الحرية…أمة تقدم دماء وحكومات تقدم خطابات وجيوش تتفرج!!
لم تكن أحداث أسطول الحرية جديدة كليا، بل هي من نوع القديم الجديد، من زوايا ثلاث: تصرفات “إسرائيل”، وحركة الأمة الإسلامية، وردود أفعال الأنظمة في المنطقة العربية والإسلامية.
أما “اسرائيل” فهي هي، ولا يتوقعنّ عاقل أن يغير الكيان المغتصب طباعه، خاصة وهو يرى أنظمة من حوله تمده بأسباب الحياة وتحفظ له وجوده وصلفه. والحديث عن جرائم الكيان المغتصب صار من نافلة القول، أغنت عنه صور الفضائيات والنقل المباشر. إلا أن الجديد، هو في عدم حساب “اسرائيل” أي وزن لدولة مثل تركيا اعتبرها رئيس حكومتها -الذي يصفه بعض الناس بأن له جذوراً إسلامية!- أوثقَ حليف وأقرب صديق لـ”اسرائيل” بالمنطقة!!
أما حركة الأمة الكريمة وردود أفعال الأنظمة، فهما موضوع وقفتنا القصيرة في مقالنا هذا.
واضح لكل ذي لب، أن الأمة مستعدة للتضحية، وتتحيّن وتتشوّف لمواقف العزة، وتشتاق للنصر، وها هي في أحداث الأسطول أقدمت على مواجهة جنود الكيان الغاصب بشجاعة متناهية وبصدور عارية، في مشهد تكرر في اعتصام المسجد الأقصى، والحرب على غزة ومعركة جنوب لبنان وغيرها الكثير… يتحرك بعض أبناء الأمة قتالاً وصمودا بعيدا عن الرعاية المباشرة السياسية الرسمية، من أجل قضايا المسلمين، ويتحرق بعضهم الآخر ويغضب آخرون ويتفاعل آخرون…في حركة ساخنة ملتهبة، بينما الموقف الرسمي في بيات شتوي جامد.
ويمكن القول باطمئنان إن الأمة قد تجاوزت في حراكها الشعبي الموقف السياسي الرسمي بأشواط ومراحل، وها هو مشهد الانفصال يتكرر في أحداث أسطول الحرية.
فعلى سبيل المثال أوردت الأخبار عن المظاهرات الأولية للشعب التركي دعوات صريحة لإعلان الحرب على إسرائيل على شاكلة: «أردوغان، حرّر مدافع الجيش»، أو «العين بالعين والسن بالسن»، و «أيها الجنود الأتراك توجهوا إلى غزة». وعبر آخرون بكتابة شعارات من نوع: «نطلب من الحكومة طرد السفير الإسرائيلي، وإذا اقتضت الضرورة، فنحن مستعدون للحرب».
أما رد الفعل الرسمي، فتراوح بين إلغاء مناورات عسكرية وإلغاء مباراة كرة قدم واستدعاء السفير. وبالمناسبة، فإن إجراء استدعاء السفير قامت به أيضا حكومتا السويد والدانمرك!
وزاد الخطاب الرسمي بالقول “وقفنا دائما ضد معاداة السامية، وقد ساهمنا في أكثر من مرة بمناصرة حق الشعب الإسرائيلي بالعيش الكريم. والآن جاء الوقت الذي يتوجب عليكم به أن تقولوا “كفى” لحكومتكم التي تهدد استقراركم وأمنكم. هذه الحكومة لا تفقه في إدارة شؤون الدولة وهي تسيء لشعبها قبل أن تسيء لأي كان”. (جزء من خطاب رئيس الوزراء التركي في 1 حزيران)
ومن غريب ما قرأت، ما نقل عن الرئيس الإيراني نجاد قوله “إن قافلة أسطول الحرية مقدمة لآلاف السفن وقوافل الحرية التي ستأتي قريباً من كل أنحاء العالم للإطاحة بالكيان الصهيوني” (الجزيرة نت 4 حزيران)
فهل وصل بنا الحال لأن ندفع بأبنائنا وزوجاتنا وشيوخنا لمواجهة جنود ومارينز القوات “الإسرائيلية” بينما سلاحنا التقليدي والنووي يوظف للاستعراضات الوطنية والإعلامية؟!
إن الخطاب الرسمي لا يزال يصر على التوجه إلى عنوان واحد لا غير، ألا وهو مجلس “الأمن” الدولي والأمم المتحدة ومشتقاتها، ويصر على استصدار قرارات مخففة اللهجة كي تضمن عدم الفيتو الأميركي، ويصر على اعتبار أعمال “اسرائيل” تهديداً لعملية السلام والمبادرة العربية للسلام، ويصر على اعتبار أميركا وسيطا نزيها رغم الرفض الأميركي المتكرر لأن تُدان “إسرائيل” علانية في فعل اتفق الناس على تجريمه في الشرق والغرب.
إن السقف المنخفض للمطالبات يرتبط في جزء كبير منه بفلسفة ومذهب فكري شائع، هو البراغماتية أو ما يمكن تسميته “الجبرية الحديثة”، وعنوانه الدارج “كن واقعياً”! هذا المذهب يرغم أتباعه و”مريديه” على أن يروا علاج المشكلات بمنظار “شيخهم” الواقع الدولي والإقليمي، وما هو ممكن ومتاح، وليس بما يجب أن يكون. هذا المذهب يقتضي نسبية المواقف وانعدام الثوابت والخضوع لإرادة القوي، وتحوّل ما كان بالأمس القريب مرفوضاً رفضاً باتاً، يحترق من يقترب منه بنار التخوين والعمالة، إلى القبول التام والسقف الأعلى للتطلعات، إن كان ثمة تطلعات. وشاهد ذلك التحول الدراماتيكي للاءات الخرطوم الثلاث إلى القبول بالسلام مع (إسرائيل) كخيار استراتيجي أوحد ووحيد، من يبتعد عنه قيد أنملة يحترق بنار المثالية والخيالية الرجعية، وشاهده أيضا ذلك التحول المتدرج في تقزيم قضية فلسطين من قضية إسلامية إلى قضية عربية إلى قضية فلسطينية، ثم مؤخرا إلى قضية فصائل فلسطينية تتناحر على السيطرة الإدارية على جزء يسير من الأرض التي باركها الله!!
هذا الموقف السياسي التابع لإرادة القوي يظل دائما في حال تبعية، وإن خضع لتصنيع جديد أو إعادة تدوير أو تجميل ببعض المساحيق القومية حيناً والإسلامية حيناً آخر.
إن مستوى الحدث كبير جدا. وجزء واحد من الحدث، وهو دم مسلم واحد لهو أعظم حرمة من بيت الله الحرام. وكما جاء في الحديث عن الرسول عليه السلام “لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم” وقوله عليه السلام “ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك؛ ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً”. ناهيك عن الأجزاء الأخرى للحدث المتعلقة بهيبة الأمة وكرامتها ووزنها بين الأمم.
فهل هذه الدماء الطاهرة المهراقة على مذبح سفينة مرمرة يوازيها طلب لانعقاد اجتماع مكرر ومملول لوزراء خارجية الدول العربية؟! أم هل توازي أطنان الأدوية والأغذية أطنان المتفجرات التي تلقى على رؤوس المسلمين في غزة؟ وماذا تفعل الخطابات العنترية لمسلم قتل على متن السفينة ورمي جثمانه في عرض البحر الأبيض؟
إن جواب الحاكم المخلص، يكون مقتضباً في مثل هذه المواقف، كما عهدته أمة الإسلام في تاريخها “الجواب ما ترى لا ما تسمع”.
إن القبول بالأمر الواقع، والقبول بالخيارات التي تحددها الأنظمة، لن يخرجنا من حلقات الدماء. فالجرائم في تاريخنا المعاصر لا يمكن حصرها، ولكن بالتأكيد يمكن حصر ردات الأفعال الموازية؛ قانا ومسيرات، جنين وتبرعات، أحمد ياسين ومهرجانات، أبو غريب ومناشدات، غوانتانامو وقضايا حقوق إنسان، غزة ومحاكمات جنائية، وهلم جرا.
دماء مرمرة وقبلها دماء كثيرة، أرسلت إشارات واضحة بحتمية الخروج ، فكرا وسلوكا، على قواعد الواقع السياسي الحالي المفروض على المسلمين، قواعد اللعبة التي تحكم حركة المسلمين العملية، والتي وإن كانت حركة مخلصة، لكنها ستكون حركة مخلصة في ظل وضع خاطئ.
قواعد التفكير والحركة السياسية هذه يجب أن تتغير، والحركة العاطفية المشاعرية التي تتفنن الأنظمة بإدارتها تنفيسا واستغلالا واحتواء لا بد أن تتطور إلى حركة واعية، والحديث عن حل مشكلة فلسطين جذريا لا بد أن يكون جذريا حقاً، فالقضية في الأساس هي في وجود كيان مغتصب لفلسطين، وفلسطين ليست هي قضية أهل فلسطين أو العرب وحدهم، بل هي في واقعها قضية إسلامية، وليست هي كذلك أراضي الـ67 أو معابر أو حواجز أو قدساً شرقية وغربية…الخ، إنها ببساطة قضية أرض إسلامية وقضية مقدسات إسلامية اغتصبها اليهود بمؤازرة من دول الغرب، وما يسمى بالمجتمع الدولي.
إن هذه الدماء الزكية الطاهرة تذكّر المسلمين بأن قضية فلسطين في الأساس هي قضية عسكرية؛ صعيدها ساحات القتال وأدواتها الجيوش، وليست قضية سياسية صعيدها طاولات المفاوضات وأدواتها اتفاقيات أوسلو وخارطة الطريق والقرارات الدولية، وأيضا ليست هي قضية إنسانية أدواتها البطانيات والرز والخيام!
وواجب الدفاع عن الأمم والشعوب، وواجب تحرير بلادها تقوم به الجيوش وليس ربات الخدور. والذي يواجه الدبابة الإسرائيلية يجب أن يكون دبابة مثلها أو أقوى منها، جيشاً.. وليس صدر طفل أعزل!
“واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم” “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”.
ختاما أقول، إنّه لمما يدمي القلب ويحيّر العقل أن لا تكون الأمّة الاسلامية جمعاء طرفا عمليا في هذا الصراع. فهذه الأمّة هي ربع سكان الأرض، ولديها معظم ثروات الأرض، وتحت أقدامها جميع الممرات المائية والبرية الهامة في الأرض، ولديها خمسة وستون بالمائة من شباب الأرض، ولديها قبل كل شيء عقيدة واحدة صحيحة هي عقيدة الإسلام.
أمّة كهذه يجب أن يكون وزنها ثقيلا، فلماذا هي ليست طرفا فيه؟ ولماذا يكون تأثيرها صفرا مطلقا في أية قضية من قضايا العالم فضلا عن قضاياها هي؟
السبب هو في اختطاف واغتصاب الإرادة السياسية الواحدة المستقلة للأمة، تلك الإرادة التي فتحت فلسطين (عمر بن الخطاب) وحررتها (صلاح الدين) وحافظت عليها (عبد الحميد الثاني). عبد الحميد صاحب المقولة الشهيرة “إن فلسطين ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. أما وأنا حي، فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من دولة الخلافة العثمانية. من الممكن أن تقطع أجسادنا ميتة، وليس من الممكن أن تشرح ونحن على قيد الحياة”.
هذا معنى أن يكون لنا دولة خلافة على منهاج النبوة؛ تطبق الإسلام كاملا، تحرر البلاد والعباد من هيمنة الكفر والكفار، تكون فلسطين كلها لنا، نشد الرحال إلى المسجد الأقصى كيفما نريد من غير حواجز أو سدود أو حدود أو حراب يهود، تكون بغداد لنا، وكابول لنا، وكشمير لنا، والشيشان لنا، والنفط لنا، تخرجنا من حكم خمسين حاكماً تابعاً إلى حكم خليفة راشد، تجعل لنا هيبة ورهبة، تحمل الإسلام إلى العالم بالدعوة والجهاد، تخرج الناس من جور الرأسمالية إلى عدل الإسلام.