تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية” إعداد الأستاذ محمد أحمد النادي الحلقة الرابعة والعشرون
تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
إعداد الأستاذ محمد أحمد النادي
الحلقة الرابعة والعشرون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية، مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية، نقول وبالله التوفيق: عرضنا عليكم في الحلقة السابقة أنموذجا ثالثا للشخصية الإسلامية، عشت معها عن قرب، وتعلمت منها الكثير! وفي هذه الحلقة نتابع حديثنا حول هذه الشخصية.
تابعت أجهزة المخابرات صديقي وهو خارج من بيته متوجها إلى مكان بعيد، حيث يريد الذهاب من جبل الزهور في عمان إلى مدينة صويلح؛ لكي يزود أحد الشباب بما يصدر عن الحزب من النشرات والكتب والمجلات، كان يحملها في حقيبة سوداء، وظل صديقي ينتقل من سيارة إلى سيارة حتى وصل إلى المكان الذي يعمل فيه الشاب فلم يجده، وسأل عنه فقيل له: إنه خرج لبعض شأنه، وسيعود بعد ساعة، وفي هذه الأثناء رفع أذان الظهر، فترك الحقيبة أمانة عند أحد العاملين، ثم توجه إلى المسجد لأداء الصلاة، ولما وصل ووضع رجله اليمنى على الدرجة الأولى من درجات المسجد يريد النـزول، سمع صوتا يهتف باسمه من بعيد، يا أبا بسام، فالتفت فإذا رجل أمن من خلفه يمسك به، ويقوده نحو السيارة التي أعدت لاعتقاله، وكان يجلس فيها رجل الأمن الذي هتف باسمه، واقتادوه إلى دائرة المخابرات العامة، وهناك جرى الحوار الآتي: قال المحقق: أين الحقيبة السوداء التي كانت معك؟ قال صديقي: لن أخبرك! قال المحقق: لقد أتينا بها! ها هي على مكتبي! ألا تراها؟ قال صديقي: بلى أراها! قال المحقق: ماذا أفعل بك؟ أأسجنك؟ قال صديقي: وهل السجن يخيف؟ قال المحقق: ألا تخاف السجن؟ قال صديقي: لا. فإن السجن نعمة! إنني في السجن أتفرغ لعبادة الله! فأختم قراءة القرآن مرات عديدة، بينما لا أستطيع ذلك وأنا خارجه. ثم هل تعرف قانون العيب أيها المحقق؟ قال المحقق: لم أسمع بهذا القانون، ما هو قانون العيب هذا؟ قال صديقي: يكون لي جار، فكره ليس كفكري، وقناعته ليست مثل قناعتي، فيقول في نفسه: جارنا في السجن، عيب أن لا أزوره، فيأتي لزيارتي، ويضع لي شيئا من النقود، في حسابي لدى إدارة السجن، وهو خارج من عندي. هذا هو قانون العيب أيها المحقق. قال المحقق: هذا هو رأيك في السجن، فهل تتمناه؟ قال صديقي: لا أتمناه، ولكن إذا وقع القضاء، فمرحبا بقضاء الله!
قام المحقق يمسك بتلابيب صديقي وقميصه، ويدفع به نحو الحائط، وصديقي يتفرس في وجهه ويقول في نفسه: ماذا بعد هذه الجذبة؟ قال المحقق: إذن ماذا أفعل بك؟ قال صديقي: إذا كان لديك إجراء بحقي فاتخذه! قال المحقق: خير الأمور العفو! هيا اغرب عن وجهي! قال صديقي: لو تتكرم علي أيها المحقق بإعطائي هذه المجلات وهذه النشرات! قال المحقق: وما تريد أن تفعل بها؟ قال صديقي: كي أوزعها. قال المحقق: وهل أنت مصر على توزيعها؟ قال صديقي: أقسم بالله تعالى لو أني أزحف على العصعص، وهي عظمة صغيرة في أسفل العمود الفقري، سوف أبقى أوزع حتى أموت! فلقد عاهدت ربي أن لا أموت إلا وأنا حامل للدعوة! لقد صدق أخي وصديقي عهده مع الله؛ فبقي حاملا للدعوة حتى آخر لحظة من حياته، فكان وهو في المستشفى، يناقش الطبيب الذي يجري له عملية إيقاف نزيف الدم من المثانة. وإننا نحسبه والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحدا أنه ممن ينطبق عليهم قول الله جل في علاه: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه * فمنهم من قضى * نحبه ومنهم من ينتظر * وما بدلوا تبديلا}. (الأحزاب 23)
لقد أمضى أخي وصديقي، وحبيبي ورفيق دربي في الدعوة، حياته حاملا للدعوة، يجعل لها المرتبة الأولى في سلم أولوياته، حدثني مرة أنه كان يشرف على حلقة تبعد عن مكان سكناه عدة كيلو مترات، وكان الجو باردا جدا، بل قارس البرودة بسبب تساقط الثلوج، وكان صديقي يجلس مع أبنائه الصغار حول المدفأة التي يضع فوقها وعاء مليئا بالماء الحار، وحان موعد الذهاب إلى الحلقة، وأخذت نفس صديقي تأمره بالسوء، تأمره وتقنعه بأن يترك الذهاب إلى الحلقة، ويتغيب عنها، وله في تساقط الثلوج أكبر الأعذار! فقال محاورا نفسه: لو أن أحد الأبناء وهو يلعب ويدور حول المدفأة، تعثر بها وانسكب الماء الحار على جسده، أكنت آخذه إلى المستشفى، وأراجع به الطبيب أم أنني أتعذر بسقوط الثلوج؟ وجاء الجواب سريعا بدافع الفطرة: لا بل آخذه إلى المستشفى، وأراجع به الطبيب. فقال صديقي: فحق الله أولى بالأداء!
نهض صديقي واقفا، وارتدى ملابس الخروج، وسار ماشيا على قدميه إلى أن وصل إلى المكان الذي تعقد فيه الحلقة، فوجد الشباب في انتظاره مما أبهج نفسه، وشرح صدره بطاعته لربه جل في علاه!
أيها المسلمون:
ما رأيكم بشخصية صديقي؟ كيف وجدتم عقليته؟ وكيف وجدتم نفسيته؟ ترى هل عرفتموه؟ إنه إبراهيم علان. الذي له من اسمه نصيب، كما قال أحد شبابنا في مجلس العزاء: فاسمه على اسم نبي الله إبراهيم الذي قال الله في حقه: {وإبراهيم الذي وفى} (النجم 37) وحقا إن صديقي وفى فبقي حاملا للدعوة حتى آخر لحظة في حياته. رحمك الله يا أبا بسام رحمة واسعة، وجمعنا وإياك في الفردوس الأعلى من جنات النعيم، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
إخوتي الكرام:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، على أن نكمل تأملاتنا في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم، نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.