تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
الحلقة الرابعة والأربعون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية، مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية، نقول وبالله التوفيق: موضوع حلقتنا لهذا اليوم هو “ثبات حاملي الدعوة من شباب حزب التحرير اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام”.
وفي ولاية الأردن ضرب حاملو الدعوة من شباب حزب التحرير أروع الأمثلة في الثبات أمام السلطات الأمنية وأجهزة المخابرات العامة الذين أذاقوا الشباب أشد صنوف العذاب.
وقد ذكرت لكم في الحلقات السابقة بعض المواقف التي تدل على ثباتهم، من خلال صلتي الوثيقة بهم أثناء فترة اعتقالي معهم عام ثلاثة وثمانين وتسعمائة وألف ميلادية، وسأذكر مواقف أخرى لأسباب أربعة: لتنتفع بها الأجيال القادمة، ولتدرك الأمة حجم التضحيات التي بذلها، ولا زال يبذلها أعضاء وقياديو شباب حزب التحرير، وهم يعملون لإقامة دولة الخلافة، التي تطبق شرع الله، وتحكم العباد بما أنزل الله على منهاج النبوة، ولتدرك الأمة كذلك مدى الجدية والحزم، والعزم والإصرار، لدى قيادة الحزب على تحقيق غايته التي هي تطبيق شرع الله، والحكم بما أنزل الله، ولكي تحافظ الأمة على هذه الدولة بعد قيامها قريبا بإذن الله!
وأول هذه المواقف موقف حصل مع أحد شباب الحزب، وهو في مقتبل عمره، وهو في عمر الورد في ريعان شبابه، والدنيا مقبلة عليه. لقد أرسله أبوه إلى اليونان؛ ليدرس الطب ويعود بشهادة الدكتوراه. كان اسم هذا الشاب اسما على مسمى، اسمه مثال، وهو حقا مثال.
كان – على سبيل الطرفة – يعترض على الشباب حين يريدون توضيح بعض المسائل فيقولون: نريد أن نضرب لذلك مثالا. فكان يقول لهم: وماذا صنع لكم مثال حتى تضربوه؟
إنه مثال للشاب التقي النقي الواعي! ينطبق عليه قول أبي حمزة الشاري في خطبته حيث قال فيها: ” نعم، شباب والله، مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن السعي في الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة، وأطلاح سهر، باعوا لله أنفسا تموت غدا، بأنفس لا تموت أبدا، قد خالطوا قيام ليلهم بصيام نهارهم، في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه”.
وهناك في اليونان أبدى هذا الشاب تفوقا كبيرا في دراسة الطب، وأبدى تفوقا أكبر في مجال حمل الدعوة، لقد كان يمضي معظم وقته في الدعوة إلى الله، جاعلا إياها في المرتبة الأولى من سلم أولوياته، وبقي يعمل في مجال الدعوة طيلة سني دراسته، وكانت الأجهزة الأمنية قد دست أحد عناصرها بين طلاب الجامعة، وكان هذا العنصر يرقب تحركات هذا الشاب، ويكتب تقارير أسبوعية، ويبعث بها إلى السفارة الأردنية في تلك البلاد، وتقوم السفارة بدورها بإرسال تلك التقارير إلى دائرة المخابرات في عمان، واستمر إرسال التقارير سنوات عدة، إلى أن أوشك هذا الشاب على إتمام دراسته، واقترب من التخرج.
ولما لم تبق على تخرجه من الجامعة إلا سنة واحدة، أحس والد الشاب بدنو أجله، وأحب أن يفرح بولده قبل أن يوافيه أجله، فما كان منه إلا أن أرسل برقية قال له فيها: “احضر حالا لأمر ضروري”. تلقى الشاب برقية والده، ولما قرأها قال في نفسه: لولا أن والدي في خطر لما أرسل لي هذه البرقية، وتذكر الآيات التي تأمر ببر الوالدين، والإحسان إليهما، فسرعان ما تجهز للعودة، ولما حضر إلى مطار عمان وجد عناصر الأمن بانتظاره، فاعتقلوه من المطار معصوب العينين، واقتادوه إلى دائرة المخابرات العامة، وهناك أجروا معه تحقيقات عدة، وعذبوه أشد أنواع التعذيب، فلم يفلحوا بانتزاع أية معلومة، ولم يجبهم عن أسئلتهم التي وجهوها إليه، ولما يئسوا من التحقيق معه، استقر رأيهم على تحويله إلى المحكمة العسكرية، وأصدروا بحقه الحكم عليه بالسجن مدة ثلاث سنوات أي ما يعادل سبعة وعشرين شهرا، ويمضي الشاب مدة حكمه في السجن ثم يخرج منه ليستأنف نشاطه الحزبي من جديد، وما يكاد يمضي شهرا أو شهرين أو ثلاثة خارج السجن حتى يعتقل ثانية وثالثة ورابعة وخامسة … إلخ. ونتيجة لكثرة اعتقال هذا الشاب ذاع صيته بين رجال الأمن وعناصر المخابرات، واشتهر شهرة واسعة فيما بينهم حيث كان لقبه عندهم “الدكتور” فكلهم ينادونه بهذا اللقب. وبقي على هذا الحال مدة خمسة عشر عاما، وبالطبع كان خلال هذه الفترة ممنوعا من السفر، ولم يتمكن من متابعة دراسته؛ وذلك لأن الأجهزة الأمنية قامت بحجز جواز سفره طوال هذه الفترة.
وقد تعرض هذا الشاب إلى نوع آخر من أصعب أنواع الابتلاءات والفتن التي يتعرض لها حاملو الدعوة، ألا وهي فتنة الأهل والأحبة الذين يخشى عليهم المؤمن أن يصيبهم الأذى بسببه، وهو لا يملك عنهم دفعا، وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم، وينادونه باسم الحب، والقرابة واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك، وقد أشير في سورة العنكبوت إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين، وهو شاق عسير!
قال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ? وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ? إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون}. (العنكبوت8) قام والد هذا الشاب بزيارته في السجن وقال له: يا ولدي اترك هذا الحزب وهذه الدعوة، وأنا أشتري لك بيتا، وأزوجك من أجمل الفتيات، وأشتري لك سيارة! فماذا كانت إجابة هذا الشاب يا ترى؟ قال الشاب: يا أبت، بيتي الذي ينتظرني في الجنة خير من البيت الذي ستشتريه لي! وزوجتي من الحور العين في الجنة أجمل من الفتاة التي ستخطبها لي! والنعيم الذي أعده الله لي وينتظرني في الجنة أفضل من السيارة التي ستشتريها لي!
أجل أيها المسلمون هكذا كان موقف حاملي الدعوة من شباب حزب التحرير، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام! لم يكتفوا بالثبات على الحق أثناء حمل الدعوة، بل يطمحون إلى أن يكونوا ثابتين أيضا أمام الكفار في ساحات القتال، وفي ميادين الجهاد في سبيل الله! وقد صدق فيهم قول الشاعر:
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا إنما الحيـاة عقيـدة وجهـاد
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد احمد النادي