تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
الحلقة التاسعة والأربعون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية، مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية، نقول وبالله التوفيق: موضوع حلقتنا لهذا اليوم هو “ثبات حاملي الدعوة من شباب حزب التحرير اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام”.
في ولاية الأردن ضرب حاملو الدعوة من شباب حزب التحرير أروع الأمثلة في الثبات أمام السلطات الأمنية وأجهزة المخابرات العامة الذين أذاقوا الشباب أشد صنوف العذاب. نتابع معكم تتمة الموقف الثالث، وهو تعذيب أستاذي الفاضل، والعالم الجليل، الأستاذ يوسف أحمد السباتين، على يد المحقق ذيب بدر المعاني، ولن أحدثكم عن ذلك، بل أتركه يتحدث عن تعذيبه بنفسه من خلال مذكراته التي كتبها قبيل وفاته؛ لينتفع الناس بها عموما، وحاملو الدعوة على وجه الخصوص! يقول رحمه الله:
أدخلوني الزنزانة في الليل، وعند الصباح أخذوني للمحقق ذيب بدر وسألني عن أعضاء الولاية في حزب التحرير، وعن الشيخ تقي الدين النبهاني المطلوب بتهمة محاولة الانقلاب، وكنت أعرف مكانه الذي يختفي فيه، كما سألني أسئلة مهمة كثيرة، وخاصة عن المطبعة التي تطبع فيها النشرات، فأنكرت معرفتي بكل ذلك، فأخذوني إلى ساحة التعذيب، وجاء اثنان من الجنود، وربطا رجلي بخشبة ورفعاهما، وبدأ ذيب بدر يجلدني بكل قواه، وبكل ما في نفسه من حقد، لأني قد أفلت من أعوانه يوم جاءوني في الغابة، وأفلت منهم بحيلة، فقد طمس الحقد على قلبه، وأعمى بصيرته، فصار يجلد بكل عنف، ولم يقبل لأحد غيره أن يجلدني، فكان يجلدني في الصباح مرتين، وفي المساء مرتين، واستمر على هذا النهج أسبوعا كاملا ينتظر مني الاعتراف، أو أن أترجاه تخفيف الضرب، فلم يسمع مني طوال المدة إلا كلمة واحدة أرددها أثناء تعذيبي وهي: “يا الله” كنت أرددها طوال فترة التعذيب، ولم أقل غيرها إلى أن جاء يوم الامتحان الصعب فقد كان من عادة المخابرات أنها تحاول في آخر الأمر وفي نهاية المطاف أن تفرغ حقدها في الشخص الذي تحقق معه إذا لم يدل بشيء من المعلومات التي تريدها، فتضربه وتعذبه بالوسائل التي لديها تعذيبا شديدا يفوق كل ما تقدم من تعذيب. ولذلك جاء المحقق ذيب بدر ومعه رزمة من عصي الخيزران، وأخذ يجلدني بكل ما أوتي من قوة مصحوبة بأحقاده، وأنا أردد “يا الله” “يا الله” فلا أزيد عليها، ولا أقول غيرها، حتى تكسرت كل العصي، ولم يبق إلا قطعة عصا.
فلما لم أقل إلا: “يا الله”، توقف عن الضرب، وأظهر غضبا شديدا، وكاد أن يتمزق من الغيظ، ثم قال للجنود: خذوه فألقوه في حفرة الامتصاص، فجردوني من ثيابي، ولم يبقوا علي إلا اللباس الداخلي السفلي، وعصبوا عيني، واقتادوني حتى حافة الحفرة، فقلت لهم: أعيدوني إليه. فأعادوني فقلت: ما الذي تريده؟ قال: كل شيء سألتك عنه، فقلت له: أراك تعبا، ما رأيك أن تطلق علي رصاصة من مسدسك، فتريح وتستريح؟ فقال مستنكرا: أنا أطلق عليك الرصاص؟ والله لتموتن تحت يدي موتا بطيئا. فقلت متحديا: والله لو تقطعني إربا إربا ما حصلت مني على ما تريد. فقال للجنود وقد يئس: خذوه إلى الزنزانة، فجلست وأنا أشعر بقشعريرة، ولكن لا يؤلمني شيء معين، فكان أثناء الضرب يضرب على القدم بشكل طولي، بحيث يكون وقع العصا من الكعب إلى الأصابع.
وكنت أسمع أن قدمي المضروب ورجليه يتورمان، ولكن الغريب أن قدماي لم يتورما، ولم ينزل الدم منهما، ولكن بعد فترة وأنا في السجن رحلت جلدة القدمين التي كانت تتلقى الضرب بعد موتها.
رحم الله أبا العز، لقد كان كريم الخلق، طيب القلب، حسن العشرة، يسامح كل من أساء إليه حتى جلاديه ومعذبيه، فقد أخبرني أنه قد أخذ هدية، وذهب بها إلى المستشفى لزيارة العقيد ذيب بدر المعاني -نسبة إلى مدينة معان- الذي كان يشرف على تعذيبه في المخابرات العامة الأردنية، والذي كان يرقد على سرير المرض بعد أن أصيب بالفالج، وقد طلب العقيد من أبي العز أن يسامحه، فقال له: لقد سامحتك في الدنيا والآخرة!
أجل أيها المسلمون هكذا كان موقف حاملي الدعوة من شباب حزب التحرير، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام! لم يكتفوا بالثبات على الحق أثناء حمل الدعوة، بل يطمحون إلى أن يكونوا ثابتين أيضا أمام الكفار في ساحات القتال، وفي ميادين الجهاد في سبيل الله! وقد صدق فيهم قول الشاعر:
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا إنما الحيـاة عقيـدة وجهـاد
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد النادي