تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
الحلقة الخمسون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية، مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية، نقول وبالله التوفيق:
موضوع حلقتنا لهذا اليوم هو “ثبات حاملي الدعوة من شباب حزب التحرير اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام”. في ولاية الأردن ضرب حاملو الدعوة من شباب حزب التحرير أروع الأمثلة في الثبات أمام السلطات الأمنية وأجهزة المخابرات العامة الذين أذاقوا الشباب أشد صنوف العذاب.
كثيرة هي مواقف الثبات على الحق، أثناء حمل الدعوة التي وقفها الشباب، والتي لا يتسع المجال لذكرها جميعا، وقد ذكرنا ثلاثة منها مع ذكر أسماء أصحابها، وسنذكر ثلاثة أخرى دون ذكر الأسماء، وأما الموقف الرابع فهو موقف وقفه أحد الشباب الذين بعث بهم الشيخ تقي الدين النبهاني لتأسيس نواة للحزب في سوريا، وهناك في العاصمة دمشق وقف خطيبا في الجامع الأموي: وألقى خطبة عصماء، بين فيها فرضية حمل الدعوة وإقامة الدولة، وتبليغ رسالة الإسلام للناس كافة، وعندما بلغ في الخطبة نقطة الذروة، وأحس الناس بخطورة الموضوع بدءوا ينفضون عنه واحدا واحدا، حتى لم يتبق إلا ثلة قليلة منهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، فبدأ هذا الشاب يثقفهم بثقافة الإسلام، فكانوا الحلقة الأولى في الحزب، وهؤلاء مارسوا نشاطهم في تنمية أعضاء الحزب حتى نما الحزب وترعرع، وصار على خير ما يرام.
وتدور عجلة الأيام ويعتقل صاحبنا الشاب المؤسس للحزب في سوريا، ويبدأ التحقيق معه، فيسأله المحقق عن اسمه وعن بياناته الشخصية عن عمره، ومكان وتاريخ ولادته، وعن جنسيته، وعن ديانته ومذهبه، وعن تعليمه ودراسته، وعن أفراد عائلته وأسرته، فيجيب عن تلك الأسئلة إجابة كاملة، ويسجل المحقق تلك المعلومات بتقرير يكتبه بخط يده، ثم يسأله المحقق عن علاقته الكاملة بحزب التحرير، فيقول الشاب للمحقق: أعطني التقرير والقلم لأكتب لك بخط يدي، ويعطي المحقق التقرير لصاحبنا، فماذا يكتب يا ترى؟
تناول صاحبنا التقرير، وخط خطا بالقلم تحت ما كتبه المحقق، ثم كتب تحته في منتصف السطر كلمتين فقط، ترى ما هاتان الكلمتان؟ إنهما كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، في ميزان أعمال صاحبنا، لأنهما تعبران عن مدى جرأة صاحبنا، وثباته على حمل الدعوة، هاتان الكلمتان جعلتا المحقق يقوم ولا يقعد!
لقد ثار ثورة عارمة واستشاط غضبا، وأفرغ حقده وجام غضبه، في تعذيب صاحبنا تعذيبا شديدا، تعجز الجبال الراسيات عن تحمله، لدرجة أن السلطات السورية قد سلمت صاحبنا للسلطات الأردنية محمولا على محفة، ولدرجة أن الضابط العسكري الذي تسلمه حين رآه غضب غضبا شديدا، وعنف الجنود السوريين، ورأف به ورق لحاله، وأصدر أمرا بإيصاله إلى بيته في عمان بإحدى سياراتهم العسكرية.
فما كانت تلك الكلمتان يا ترى؟ إنهما: “انتهى التحقيق” … هاتان الكلمتان الخفيفتان تحملان معنى كبيرا في دلالتهما… تحملان معنى مفاده ومؤداه أن يا أيها المحقق، لقد سألتني عن نفسي فأجبتك، فلا تطمع بأخذ المزيد من المعلومات، ولا تسألني عن غيري؛ لأنني لن أجيبك … تحملان معنى التحدي … تحملان معنى الإصرار والثبات على حمل الدعوة … تحملان معنى الصبر على الابتلاء … تحملان معنى الالتزام بأحكام الإسلام … تحملان معنى الوفاء بحق الأخوة في الإسلام … وذلك برفض التسبب بأدنى الأذى لأي مسلم!
ألم يقل الله في محكم كتابه: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ? واتقوا اللـه لعلكم ترحمون}. (الحجرات10)
ألم يقل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”؟ أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”.
ألم يقل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم”؟ أخرج البخاري في صحيحه أن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة”. بلى، لقد قال ذلك الله جل في علاه، وأكده حبيبه المصطفى عليه صلوات الله. والتزم به هو وصحابته الكرام عليهم رضوان الله!
أجل أيها المسلمون هكذا كان موقف حاملي الدعوة من شباب حزب التحرير، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام! لم يكتفوا بالثبات على الحق أثناء حمل الدعوة، بل يطمحون إلى أن يكونوا ثابتين أيضا أمام الكفار في ساحات القتال، وفي ميادين الجهاد في سبيل الله! وقد صدق فيهم قول الشاعر:
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا إنما الحيـاة عقيـدة وجهـاد
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد النادي