تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
الحلقة الثالثة والخمسون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية، مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية، نقول وبالله التوفيق: موضوع حلقتنا لهذا اليوم هو: “الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين” الذلة على المؤمنين واجبة، وكذلك العزة على الكافرين لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}.(المائدة54) والذلة هنا تعني الرأفة والرحمة واللين، وليست من الذل الذي هو الهوان، والعزة تعني الشدة والغلظة والمعاداة والمغالبة، يقال: عزه أي غلبه، والأرض العزاز هي الأرض الصلبة. ولقوله سبحانه: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}. (الفتح 29) وأيضا فإن الله سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخفض جناحه للمؤمنين قال تعالى: {واخفض جناحك للمؤمنين}. (الحجر 88) وفي آية أخرى قال: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}. (الشعراء 215) أي ألن جانبك لهم وارفق بهم، ونهاه عن الغلظة فقال عز من قائل: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}. (آل عمران159)
وفي الوقت الذي يأمره بالرحمة واللين، وينهاه عن الغلظة مع المؤمنين، يأمره بأن يكون غليظا مع الكفار والمنافقين في قوله تعالى:
{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير}. (التوبة 73/التحريم9) وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته ما لم يرد دليل التخصيص. فعلى المؤمن أن يرأف ويرحم ويلين ويخفض جناحه للمؤمنين، وأن يكون عزيزا غليظا معاديا مغالبا للكفار شديدا عليهم، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين}. (التوبة 123) وقد وردت السنة مصدقة لهذا، ففي حديث النعمان بن بشير المتفق عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. وروى مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “… وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذى قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال”.
وفي حديث جرير بن عبد الله المتفق عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لا يرحم لا يرحم” وحرمانه من الرحمة أي من رحمة الله قرينة على وجوب الرحمة للمؤمنين. ومن القرائن على وجوب التراحم بين المسلمين ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق يقول: “إن الرحمة لا تنزع إلا من شقي”، وما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به”. فإن قيل: إن طلب الرحمة ورد عاما يشمل الناس جميعا، مسلمهم وكافرهم ومنافقهم ومطيعهم وعاصيهم، وذلك في حديث جرير بن عبد الله الذي يرويه مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يرحم الله من لا يرحم الناس” قيل: صحيح إن لفظ الناس عام، ولكنه من العام الذي أريد به الخاص كقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم}.
ومما روي من رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين، ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر قال: “اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشية فقال: “أقد قضى؟”. قالوا: لا يا رسول الله. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا فقال: “ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم”. وأشار إلى لسانه.
وما رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح عن عائشة “أن النبي صلى الله عليه وسلم قـبل عثمان بن مظعون، وهو ميت، وهو يبكي، أو قال عيناه تذرفان”. وما رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه إلا أم سليم فإنه كان يدخل عليها فقيل له في ذلك فقال: “إني أرحمها قتل أخوها معي”.
ومن لينه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر، قال: عن عبد الله بن عمر قال: “لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فلم ينل منهم شيئا قال: إنا قافلون إن شاء الله فثقل عليهم وقالوا: نقفل أي نرجع ونذهب، ولا نفتحه فقال: اغدوا على القتال، فغدوا فأصابهم جراح فقال: إنا قافلون غدا إن شاء الله فأعجبهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم”.
ومن رفقه صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين، ما رواه مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكنى سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه! فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: “إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن”. ومنه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند البخاري قال: “كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال: يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فتبسم، ثم أمر له بعطاء”.
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان أصحابه رضي الله عنه أشداء على الكفار، رحماء فيما بينهم، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم!
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبـه بالكـرام فلاح
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد النادي