Take a fresh look at your lifestyle.

تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية” الحلقة الرابعة والخمسون

 
 

تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”

الحلقة الرابعة والخمسون

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وسيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

أيها المسلمون:

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية، مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية، نقول وبالله التوفيق: موضوع حلقتنا لهذا اليوم هو: “الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين” ومن صور رحمة الصحابة بعضهم ببعض، ما رواه مسلم عن ابن عباس قال: “… فلما أن أصيب عمر، دخل صهيب يبكي، يقول: واأخاه واصاحباه”.

 

وما رواه الترمذي وقال حسن صحيح، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: قدم أنس بن مالك فأتيته، فقال: من أنت؟ فقلت أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: فبكى وقال: إنك لشبيه بسعد.

 

وما رواه مسلم عن أنس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها. فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها”. وما رواه مسلم من حديث طويل لعمر بن الخطاب، في فداء أسرى بدر، وفيه: “فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما…”. وروى سعيد بن منصور في سننه عن جنادة بن أبي أمية، أنه كان مع عمرو بن العاص بالإسكندرية فأمر الناس: لا تقاتلوا، فطار رعاع الناس فقاتلوا، فأبصرهم عمرو فقال: يا جنادة أدرك الناس، لا يقتل أحد منهم عاصيا، فلما أقبل جنادة أشرف له عمرو، ثم ناداه: أقتل أحد من الناس؟ قال: لا، قال: الحمد لله أن لم يقتل منهم أحد عاصيا.

 

وهنا لا بد من بيان الحد الفاصل بين التراحم واللين والرأفة بالمسلمين، وبين الشدة والحزم معهم، والذي يبدو أن الرحمة والرأفة واللين لا مكان لها في تطبيق حكم شرعي، ولا فيما فيه ضرر على المسلمين، ولا بد هنا من الشدة والحزم في تطبيق الأحكام، وفي منع الضرر عن المسلمين. وبيان ذلك: فيما يتعلق بتطبيق حكم شرعي: في حديث أبي هريرة عند أحمد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اضربوه” ثم يقول: “قولوا رحمك الله”. روى أحمد في سننه عن أبي هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اضربوه” فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان، ولكن قولوا رحمك الله”. وفي الحديبية خالف رأيهم لأنه حكم شرعي والحديث معروف، ولم ينزل عند رأيهم رحمة بهم حتى لا يوقعهم في الحرج، أي بحجة رحمتهم واللين لهم والرأفة بهم كمخالفين لأمره.

 

وفي حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه قالت: “إن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقال، ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا، ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال: “إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة ابنة محمد سرقت لقطعت يدها”. فلم يلن لقريش، ولم يرحم المخزومية بمنع الحد، وأنكر على أسامة شفاعته.

 

ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم راحما أحدا في تطبيق حكم شرعي لرحم الحسن عندما أخذ تمرة من تمر الصدقة، ففي حديث أبي هريرة المتفق عليه قال: “أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها فى فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كخ كخ ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟!”.

 

أما حزمه صلى الله عليه وسلم في دفع الضرر فواضح في حديث معاذ عند مسلم في غزوة تبوك قال: ثم قال: “إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي”. فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء. قال: فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هل مسستما من مائها شيئا”. قالا: نعم. فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول. قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء. قال: وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر أو قال: غزير، حتى استقى الناس ثم قال: “يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا”.

 

وفي حديث محمد بن يحيى بن حبان، عند ابن اسحق، في قصة بني المصطلق، وما فعله المنافقون قال: “… فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا، وليلته حتى أصبحوا، وصدر يومه حتى اشتد الضحى، ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث …”.

 

وحديث سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم الذي صححه ابن كثير “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتحل قبل أن ينزل آخر النهار …”.

وأما حزم الصحابة، فأبرزه ما فعله أبو بكر رضي الله عنه في قتال المرتدين، وإنفاذ بعث أسامة مخالفا المسلمين جميعا، فنزلوا عند رأيه ونفذوا أمره ثم حمدوه. فإذا استثنينا تطبيق الأحكام، ومنها دفع الضرر، لأمكن القول: إن الذين يرحمون هم من يصاب بمصيبة كالموت أو المرض أو فقد عزيز، والجاهل يرحم ويلان له الجانب ويعلم ويصبر عليه، وفي تطبيق المباح يختار أيسر الأمرين، ويرجح اللين على الشدة كفعله صلى الله عليه وسلم في حصار الطائف مع الجيش، كما مر آنفا في حديث ابن عمر عند البخاري، ولا بأس من إعادته للتذكير به. روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال: “لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فلم ينل منهم شيئا قال: إنا قافلون إن شاء الله فثقل عليهم وقالوا: نقفل أي نرجع ونذهب، ولا نفتحه فقال: اغدوا على القتال، فغدوا فأصابهم جراح فقال: إنا قافلون غدا إن شاء الله فأعجبهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم”.

 

أجل أيها المسلمون هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما بأصحابه في مواقف الرحمة. حازما في مواقف الحزم! وهكذا كان أصحابه صلى الله عليه وسلم رحماء فيما بينهم! حازمين في مواقف الحزم! فكونوا مثلهم رحماء وحازمين، ليرضى عنكم رب العالمين، ويعزكم وينصركم كما نصر وأعز أسلافكم الأولين!

 

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم      إن التشبـه بالكـرام فلاح

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

 

محمد أحمد النادي