وَقفَة مع آية لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ الحلقة الأولى
ووقفتُنا لهذا اليوم مع آيةٍ كريمةٍ من كتابِ الله تعالى تقشعّرُ من هولِها الأبدان ويشيبُ منها الولدان وتدفعُنا لتعظيم الزاد ليومِ الميعاد ،، ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37)﴾ صدق الله العظيم .
ففي هذهِ الآيةِ الكريمة يصفُ لنا اللهُ تعالى ذلك المشهدَ المهَيب مشهدُ الفرارِ وأيُّ فرار ؟؟ فرارٌ من حبات القلوب وفلذاتِ الأكباد ،، يفرُّ المرءُ أولاً من الأبعدِ إلى الأقربِ إلى قلبه يفرّ أولاً من أخيهِ ثم من أمهِ وأبيه ثم من صاحبتهِ وبنيه الذين هم أقربُ الناسِ إلى قلبه ، ولكن الموقفَ أعظمَ من هذه المشاعرِ السامية ،، وكلٌ مشغولٌ بحسناتهِ وسيئاتهِ وإلى أين سيؤولُ بحالِه ، أتراهُ إلى جنةٍ عرضُها السماواتِ والأرض ؟؟ أم إلى جهنم وبئسَ المصير !!
وإذا نظرنا في سياقِ الآياتِ الأولى نجدُ أن الحديثَ عن موقفٍ مُرعبٍ مُخيف، هو لحظةُ سماع الصّاخّة ، “والصّاخّة: صيحة شديدة من صيحات الإنسان تصخّ الأسماع، أي تصمُها.. فالصّاخّة صارت في القرآن علما بالغلبة على حادثة يوم القيامة وانتهاء هذا العالم، وتحصل صيحات منها أصوات تزلزل الأرض ، واصطدامُ بعض الكواكب بالأرضِ مثلا، ونفخة الصور التي يُبعثُ عندها النّاس”.
وعندما يسمعُ الإنسان الصّاخّة تأخذهُ حالةٌ طبيعيةٌ من الفزعِ والهلع، وكلّما ازداد إدراكه لعظم الموقف وعظم الخطب ازداد هلعه، ومال إلى الحفاظ على نفسه قبل غيره. ومن هنا، نرى هذه الحالة من التدرج في الفرارِ من الأقرباء بعد سماع الصيحة المرعبة، إذ إنّ الإنسان عند سماعها تنتابه حالة فزعٍ ورعبٍ فيتصرفُ بسلوكٍ فطري، فيفرّ من أبعد الأقرباء إليه وهو الأخ، إلا أنّه يزداد وعيه على خطورة الموقف والمشهد فيفرّ من أمّه وأبيه، ثمّ يبلغ به الإدراك أعلى الدرجات، ويعي على أنّ هذا الموقف يقتضي منه النظر في حاله ونفسه أي يقتضي منه الأنانية، فيفرّ بعدها من أقرب الأقرباء إليه أي من زوجته وبنيه ، ففي حالة الرعب والفزع، يسهل على الإنسان الفرار من أخيه، ويصعب عليه الفرار من أمه وأبيه، ويصعبُ عليه أكثر الفرار من صاحبته وبنيه؛ لأنّه هو القوّام عليهم والراعي لهم ،، فسبحان الله ما أروع هذا التصوير الذي يسبر غور النفس البشرية وما أبهاه !!
قِيلَ: إِنَّمَا يَفِرّ حَذَرًا مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ إِيَّاهُ, لِمَا بَيْنهمْ مِنْ التَّبِعَات. وَقِيلَ: لِئَلَّا يَرَوْا مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الشِّدَّة. وَقِيلَ: لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَهُ وَلَا يُغْنُونَ عَنْهُ شَيْئًا ; كَمَا قَالَ: ” يَوْم لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا ” [ الدُّخَان : 41 ] وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن طَاهِر الْأَبْهَرِيّ : يَفِرّ مِنْهُمْ لِمَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ عَجْزِهِمْ وَقِلَّة حِيلَتِهِمْ , إِلَى مَنْ يَمْلِك كَشْف تِلْكَ الْكُرُوب وَالْهُمُوم عَنْهُ , وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لَمَا اِعْتَمَدَ شَيْئًا سِوَى رَبّه تَعَالَى . وَذَكَرَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : يَفِرّ قَابِيل مِنْ أَخِيهِ هَابِيل , وَيَفِرّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمّه , وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ أَبِيهِ , وَنُوح عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ اِبْنه , وَلُوط مِنْ اِمْرَأَته , وَآدَم مِنْ سَوْأَة بَنِيهِ . وَقَالَ الْحَسَن : أَوَّل مَنْ يَفِرّ يَوْم الْقِيَامَة مِنْ أَبِيهِ : إِبْرَاهِيم , وَأَوَّل مَنْ يَفِرّ مِنْ اِبْنه نُوح ; وَأَوَّل مَنْ يَفِرّ مِنْ اِمْرَأَته لُوط . قَالَ : فَيَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِيهِمْ وَهَذَا فِرَار التَّبَرُّؤ .
فيا ويح نفسي على من لسانُ حالهِ يومئذٍ يقولُ بحسرةٍ وخوفٍ وألمٍ وحيرةٍ ورجاءٍ وأمل:-
وفي موقف الحشر يوم المآب
وقفت هناك لفصل الحساب
وأقبلت أبحث علي أرى
حبيباً يمد يداً بالثواب
على البعد أبصرتُ أمي الوفاء
هرعتُ إليها وكلي رجاء
فردت الأم …
وددتُ لو أني أجيب النداء
ولكن وزري وبري سواء
ولا أملك اليوم إلا الدعاء
فـَـسـِـرْ لأبيك تجد ما تشاء
فقلت : أيا أم أين العطاء
وأين الحنان وأين السخاء
أما كان صدرك لي كالسقاء
وحضنك كان لجسمي غطاء
وأبصرتُ وجه أبي من بعيد
وقلت له وبكائي يزيد :
أبي، هل تجود بما قد يفيد ؟
فرد الأب …
أفي مثل هذا البلاء الشديد
تـُـرَجـِّـي من الحسنات المزيد
وحملي ثقيل وأجري زهيد
فهيهات تلقى معي ما تريد
فقلتُ :
أما كنت لي موئلا ! وقلبك كان لي منزلا !
ألم تكُ تدفع عني البلاء .. أما قد شقيت لأرفلا !
ولما عثرتُ على زوجتي
هتفتُ : لقد فُرّجَت كربتي
فهيا امنحيني دواعي المزيد
فكان رد الزوجة …
أيا خل ما باليد حيلةِ
ألا تنظرن مدى حاجتي
موازين كسبي قد خفـّـتِ
فدعني فقد عظمت حيرتي ..
فقلت: أيا زوجتي هل تـُـرى
نسيتِ من الود ما قد جرى !
وما قد حبوتك من مهجتي
فقد كنتُ أنسك دون الورى !
هناك علمتُ بأن ليس لي
سوى خالقي فهو نعم الولي
إليه ضرعت ليغفر لي
إليه ضرعت ليغفر لي !!!!!!!!!!!!
ومن يُعمل عقله ويتقِّ الله ربه يأخذ العبرة والعظة من هذه الآيات التي تجعلنا نبادر لفعل الخيرات واجتناب المنكرات والشبهات ،، والتزام أوامر الله واجتناب نواهيه والعمل العمل لكي لا نبحث عن حسنات هنا وهناك فلا شيء ينجي المرء يومئذٍ إلا عمله ،، وإن كان الإنسان في فسحة اليوم من أمره فهو غداً في ضيق يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم ،،
اللهم استرنا تحت الأرض وفوق الأرض ويوم العرض عليك يالله
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه الله آمين
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.