ميثاق الأمة ح4 أحكام متنوعة
24 – شاعت في هذا العصر كلمتا حضارة ومدنية، صارتا تطلقان على شيء واحد هو إنتاج العقل، فتطلقان على الفلسفة والفكر، وكل ما يتعلق بوجهة النظر في الحياة، وتطلقان على الأشكال المادية المحسوسة، مما تُنتجه الصناعة والفن، وكل ما هو مِن الأشكال المحسوسة في الحياة، فيُقال حضارة الأُمم السابقة، ومدنية الأمم السابقة ويُراد بهما ما تركته هذه الأمم، مِن أفكار تتعلق بوجهة النظر في الحياة، كالدين والفلسفة وما شاكل ذلك، وما تركته من آثار مادية وأشكال محسوسة. كالبناء والأدوات المصنوعة وغير ذلك، وكذلك يُقال حضارة هذا العصر ومدنية هذا العصر، ويراد بهما هذا المعنى، وهو كل ما يُنتجه العقل مِن فكر، ومن أشكال مادية. وهذا الإطلاق على هذا الوجه لهاتين الكلمتين خطأ، فإن ما يُنتجه العقل مما يتعلق بوجهة النظر في الحياة متباين تمام التباين مع ما يُنتجه مِن الأشكال المادية المحسوسة كالصناعات والاختراعات، والصواب أن تطلق إحداهما على أحد هذين الأمرين وتطلق الكلمة الثانية على الأمر الآخر، والأولى أن تطلق كلمة الحضارة على إنتاج العقل مما يتعلق بوجهة النظر في الحياة، لأنها من الحضر مقابل البدو، فإنه يراد منها طريقة الحياة، وأن تُطلق كلمة مدنيّة على الأشكال المادية المحسوسة، فَتُعَرّف الحضارة بأنها مجموعة المفاهيم عن الحياة، وتعرّف المدنية بأنها الأشكال المادية المحسوسة.
والحضارة تختلف باختلاف الأمم وطرائقها في العيش، فالحضارة الشيوعية هي غير الحضارة الغربية، والحضارة الإسلامية غير الحضارة الغربية، وغير الحضارة الشيوعية، ولا توجد حتى الآن حضارة إنسانية مطلقاً، لأن مجموعة مفاهيم الأمم والشعوب عن الحياة مختلفة ومتباينة، فما لدى الإنسانية من حضارات هو حضارات مختلفة ومتباينة، وكذلك ما في تاريخ العالم من حضارات هو حضارات مختلفة متباينة، فحضارة الإسلام غير حضارة الروم، وحضارة اليونان غير حضارة الفرس وهكذا، فكلمة حضارة إنسانية لا وجود لها.
25 – الحضارة الإسلامية تتناقض مع الحضارة الغربية، وتتناقض كذلك مع الحضارة الشيوعية، فأساس الحضارة الإسلامية هو العقيدة الإسلامية، بخلاف أساس الحضارة الغربية، فإن أساسها هو فصل الدين عن الدولة، وبخلاف أساس الحضارة الشيوعية فإن أساسها هو المادية، وهي أن الحياة والإنسان والكون تتطوّر من نفسها تطوراً ذاتياً، فالعالم بطبيعته مادي، وحوادث العالم المتعددة هي مظاهر مختلفة للمادة المتحركة، هذا بالنسبة للأساس.
أما تصوير الحياة فإنه عند الرأسمالية هو النفعية، وعند الشيوعية هو التطوّر، بمعنى الانتقال الحتمي من حال إلى حال في حركة تصاعدية، بخلاف الإسلام فإن تصوير الحياة عنده هو الحلال والحرام. وأما السعادة فإنها لدى الحضارة الغربية والحضارة الشيوعية بمعنى واحد وهو إشباع المتع الجسدية، بخلاف الإسلام فإن السعادة عنده هي الطمأنينة الدائمة، سواء أشبعت المتع الجسدية أو أصابها الحرمان، فإنه إذا وُجدَت الطمأنينة الدائمة نال الإنسان السعادة، وإذا لم توجد لم ينل السعادة، وإذا أُشبعت جميع المتع الجسدية، فلا تتحقق السعادة إلا بالطمأنينة الدائمة وهي تنال بنوال رضوان الله، ومن هنا كانت السعادة بمعناها الأساسي طلب رضوان الله، لأن به تتحقق الطمأنينة الدائمة، وبهذا التناقض بين أساس الحضارة الإسلامية، وأساس الحضارة الرأسمالية، وأساس الحضارة الشيوعية، وبين تصوير الإسلام للحياة، وتصوير الرأسمالية والشيوعية لها وبين معنى السعادة في نظر الإسلام، ومعنى السعادة في نظر الرأسمالية والشيوعية تكون الحضارة الإسلامية على النقيض من الحضارة الغربية، وعلى النقيض من الحضارة الشيوعية.
26 – لا يجوز للمسلم اخذ حضارة غير الحضارة الإسلامية مطلقاً، إذ لا يجوز للمسلم أخذ مجموعة المفاهيم عن الحياة غير ما جاء به الإسلام، فهو مقيَّد بأخذها من الإسلام فيحرم عليه أخذ غيرها، سواء أكانت متعلقة بالنظرة إلى الحياة، أم كانت متعلقة بمعالجة مشاكل الحياة، فكل حضارة غير الحضارة الإسلامية لا يَحلّ أخذها مطلقاً، أما المدنية فإنه ينظر فيها، فإن كانت غير متأثرة بوجهة النظر في الحياة فإنه يجوز أخذها كالصناعات والأسلحة وأدوات الزينة، وأشكال الثياب وأشكال التزيين والتجمل وغير ذلك، فإن هذه أشياء، والأصل في الأشياء الإباحة، أما إذا كانت متأثرة بوجهة النظر في الحياة فإنه لا يجوز أخذها كرسم كل ذي روح، ونحت كل ذي روح، وما شاكل ذلك مما جاء النهي الصريح عنه، فالمدنية يجوز أخذها إلا ما جاء النهي عنه، أما الحضارة فلا يجوز أخذها مطلقاً.
27 – يجب أن يُفرَّق بين العلوم التجريبية، وما هو مُلحق بها كالرياضيات، وبين المعارف الثقافية، فالعلوم التجريبية وما يُلحق بها عالمية لا تختص بأمة من الأمم، ولا تتعلق بوجهة النظر في الحياة، فهي في روسيا كما هي في أمريكا حقائق واحدة، وعلوم واحدة دون أي فرق، وهي لدى جميع الشعوب والأمم حديثاً وقديماً واحدة، لم تختلف ولن تختلف باختلاف الشعوب والأمم، ولا باختلاف وجهة النظر في الحياة، بخلاف الثقافة وهي المعارف التي تؤثر في العقل وحكمه على الأشياء، فإنها تختلف باختلاف وجهات النظر. فالنظرة الثقافية في روسيا، تختلف عن النظرة الثقافية في أمريكا، فالتشريع والاقتصاد والتاريخ وما شاكلها هي في روسيا غيرها في أمريكا، وكذلك الثقافة الإسلامية غير الثقافة الشيوعية، وغير الثقافة الرأسمالية، والنظرة الثقافية في الإسلام غيرها لدى الغرب، وغيرها لدى الشيوعيين، ولهذا لا بد أن يُفرَّق في التعليم بين العلم بمعناه في العصر الحديث، وبين الثقافة، فتدرس العلوم التجريبية وما يحلق بها حسب الحاجة، وتؤخذ من كل إنسان، إلا إذا كانت بعض هذه العلوم تُؤدي إلى زيغ في العقائد، أو ضعف في المعتقدات، فإن هذه العلوم فقط يحرم تعليمها، فإذا فقدت تأثيرها جاز تعلُّمها، بخلاف الثقافة فإنه يقتصر في تعليمها على الثقافة الإسلامية، ويوقف عند حَدِّ النظرة الثقافية في الإسلام، إلا في المرحلة العالية، ومراحل البحث والنقد، فإنه يجوز أن تُعلّم، ولكن لا لأخذها، بل لنقضها وإبطالها، ولا يُعلَّم شيءٌ منها من غير أن يُعلَّم إلى جانبه نقضه وإبطاله، لأن القرآن الكريم جاءت فيه عقائد الآخرين، ولكن جاءت في معرض بيانها لإبطالها والرد عليها.
أما الفنون والصناعات فقد تُلْحَق بالعلم، كالتجارة والملاحة والزراعة فتؤخذ، وقد تُلْحَق بالثقافة، مثل رسم كل ذي روح، وصنع الصلبان، فلا تؤخذ لأنها تتأثر بوجهة النظر في الحياة.
28 – هناك فرق بين الطريقة والوسيلة والأسلوب، فالطريقة تكون حسب وجهة النظر في الحياة، وتختلف باختلافها، ويُلْتَزم بها ولا تتغيّر، أما الوسيلة والأسلوب فإن كلاً منهما يكون حسب ما يتطلبه العمل، ولا تختلف باختلاف وجهة النظر، ولا يُلْتَزم بها، بل تتغير ، فإثارة التناقضات في نظر الشيوعية من الطريقة، والجهاد في نظر الإسلام مِن الطريقة، واستعمار الشعوب في نظر الرأسمالية من الطريقة. أما الأدوات التي تستعمل مثل المدفع والسيف والقنبلة الذرية، وكيفية استعمال هذه الأدوات مِن مثل الخطط الحربية، والفنون العسكرية، وما شاكل ذلك فإنه من الوسائل والأساليب، ومن هنا لا يصح أخذ الطريقة من غير الإسلام ، بل لا بد أن يُلْتَزم بالطريقة التي جاء بها الإسلام، بخلاف الوسائل والأساليب فإنه يجوز أخذها أنّى وُجدت إلا ما جاء نهي صريح عنه.
يتبع في حلقات قادمة إن شاء الله.