وقفات مع القرآن الكريم إني جاعل في الأرض خليفة
] وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [ .
بعد أن بيّن الله سبحانه أنه المحيي والمميت وأنه الخالق للسموات والأرض وأنه بكلّ شيء عليم، ذكّر الله سبحانه بالمزيد من نعمه على الناس، كلّ ذلك من باب التعجب والتوبيخ لأولئك الذين يكفرون بالله بعد كلّ هذه النعم التي أنعمها الله عليهم، فبدل أن تكون دافعا لهم ليؤمنوا ويستقيموا يكفرون ويضلون، ومن مزيد نعمه هي التي أنعمها الله على آدم عليه السلام بتأهيله للخـلافة في الأرض. وقد استفسرت الملائكة من الله سبحانه عن هذا الأمر الذي يؤهل آدم للخلافة بدلاً منهم وهم الذين يعبدون الله آناء الليل وأطراف النهار بالتسبيح والتقديس في حين أن بني آدم يفسدون ويسفكون الدماء كما علموا من حالهم التي أعلمهم الله إياها؟! فأجابهم الله بأنه سبحانه اختصّ آدم بنعمة لم يختصهم بها، وكانت تلك النعمة أن علّم الله آدم الأسماء كلها أي المسميات من حيث خواصّ المخلوقات ومدلولاتها ولم يعلمها الله للملائكة حتى يتمكن آدم من استعمال هذه المعلومات لإنشاء أفكار يعمر بها الأرض فتؤهله للخلافة فيها، عندها تبين للملائكة أن آدم علم بفضل الله ما لا يعلمون، وأن أمر الخـلافة لله يضعه حيث يشاء فييسر كلّ مخلوق لما خلقه له، فالملائكة مخلوقون لغير ما خلق له آدم عليه السلام والله يعلم الغيب ويعلم ما يبدون وما كانوا يكتمون.
وهنا لا بدّ من وقفة لنتبين كيف تعقل الأشياء وتُدرك وكيف يفكر الإنسان وينشئ أفكاراً جديدة.
إن المتدبر لهذا الأمر يتبين له أنه لا بدّ من توافر أمور أربعة حتى تتمّ العملية العقلية أو الفكرية:
1. واقع الشيء المطلوب إدراكه أو عقله أو التفكير فيه.
2. حواس سليمة عند الإنسان تمكنه من الإحساس بهذا الواقع.
3. دماغ سليم يتم نقل الواقع بالحواس إليه.
4. معلومات سابقة تفسر هذا الواقع.
وبتخلف واحدة منها لا يمكن أن يتم عقل أو إدراك أو تفكير حيث هذه الثلاثة بمعنى واحد.
فلو كان هناك واقع جيد مثل كتاب مسطور بخط عربي جيد وعلى ورق مصقول صقلاً جيداً وجميع مكونات هذا الواقع جيدة، ثم قُدّم هذا الواقع لأحد العلماء ممن له دماغ سليم وحواس سليمة، ولكن هذا العالم لا يعرف العربية فإنه لن يستطيع أن يعقل شيئاً مما في الكتاب لعدم وجود معلومات سابقة عنده أي اللغة العربية، وهكذا لو فقد أي عنصر مما ذكرنا.
فإن الله سبحانه قد خلق الإنسان وزوده بخاصية ربط بين هذه الأمور يستطيع بها أن ينتج فكراً أو عقلاً أو إدراكاً للمادة أمامه إذا توفرت عناصر العملية الفكرية السابقة. وينشئ الإنسان أفكاراً متتاليةً بناءً على ذلك.
والسؤال الذي ينشأ هو كيف كوّن الإنسان أول فكرٍ ما دام يحتاج إلى فكرٍ أو معلوماتٍ سابقةٍ لينتج أيَّ فكرٍ جديدٍ؟!
وهنا يعلمنا الله بالآية الكريمة أنه جلّ وعلا قد زوّد آدم بهذه المعلومات السابقة وهي التي مكنته من إنشاءِ أفكار ليستعملها في الخـلافة والإعمار في الأرض، وهي التي استفسرت الملائكة عنها، والتي جعلت آدم مؤهلاً للخـلافة في الأرض دونهم ] وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ [.
وهكذا فإن التفكير لا يتمّ بدون معلوماتٍ سابقةٍ، وهذا ما يتم عملياً عند بني البشر. غير أن الملاحدة يغالطون أنفسهم بتعريف العقل بأنه انعكاس الواقع على الدماغ ولا يذكرون المعلومات السابقة حتى لا يضطروا للإيمان بأن لهذا الكون خالقاً زوّد آدم بمعلوماتٍ سابقةٍ أنتجت الفكر الأول.
وبالتدقيق فيما يقولون يتبين أن تعريفهم للعقل خاطئ نصاً وموضوعاً.
فمن حيث النصّ لا يوجد انعكاس بين الواقع والدماغ لأن الانعكاس يعني سقوط ضوء على الواقع ثم ينعكس هذا الضوء على الدماغ، وهذا لا يتم بل الذي تمّ إحساس بالواقع، فإن صححنا لهم النص بأن أصبح الأمر إحساس الدماغ بالواقع فإنه كذلك خاطئ لأن الواقع والحواس والدماغ لا ينتج فكراً عن هذا الواقع إلا إذا أضيف لذلك معلومات سابقة تفسر هذا الواقع.
وهم يعلمون ذلك حقّ العلم لأنهم ينتجون أفكاراً عن وقائع الأشياء باستعمال معلومات سابقة تفسرها، يحصلون عليها بوسائل أخرى. لكنهم يغالطون أنفسهم من باب الكفر والعناد والتمادي في الضلال حتى لا ينقادوا للإيمان بالخالق المدبر سبحانه وتعالى .
وعليه فإن تلك النعمة التي تفضل الله بها على آدم فعلمه مسميات الأشياء هي التي أهلته للخـلافة في الأرض دون الملائكة. فسبحان الله على آلائه والحمد لله على جزيل نعمائه .