وقفة مع آية إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ح2
ووقفتنا هذه المرة مع آية عظيمة في كتاب الله تعالى وردت في سورة الحجر:” قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)” الحجر
قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) قال العلماء: يعني على قلوبهم ، وقال ابن عيينة: أي في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفوي ويضيقه عليهم، وهؤلاء الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم.
قلت : لعل قائلا يقول : قد أخبر الله عن صفة آدم وحواء عليهما السلام بقوله (فأزلهما الشيطان) [البقرة : 36] وعن جملة من أصحاب نبيه بقوله : ( إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ) [آل عمران : 155] فالجواب ما ذكر، وهو أنه ليس له سلطان على قلوبهم، ولا موضع إيمانهم، ولا يلقيهم في ذنب يؤول إلى عدم القبول، بل تزيله التوبة وتمحوه الأوبة. ولم يكن خروج آدم عقوبة لما تناول؛ على ما تقدم في [البقرة] بيانه. وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى القول عنهم في آل عمران. ثم إن قوله سبحانه : (ليس لك عليهم سلطان) يحتمل أن يكون خاصا فيمن حفظه الله، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات والأحوال، وقد يكون في تسلطه تفريج كربة وإزالة غمة؛ كما فعل ببلال، إذ أتاه يهديه كما يهدي الصبي حتى نام، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، وفزعوا وقالوا : ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : (ليس في النوم تفريط) ففرج عنهم. ( إلا من اتبعك من الغاوين ) أي الضالين المشركين. أي سلطانه على هؤلاء؛ دليله ( إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ) [النحل: 100].
وهذه الآية والتي قبلها دليل على جواز استثناء القليل من الكثير والكثير من القليل؛ مثل أن يقول : عشرة إلا درهما. أو يقول: عشرة إلا تسعة. وقال أحمد بن حنبل : لا يجوز أن يستثنى إلا قدر النصف فما دونه. وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح. ودليلنا هذه الآية، فإن فيها استثناء {الغاوين} من العباد والعباد من الغاوين، وذلك يدل على أن استثناء الأقل من الجملة واستثناء الأكثر من الجملة جائز. – تفسير القرطبي –
وقوله : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) أي الذي قدرت لهم الهداية فلا سبيل لك عليهم ولا وصول لك إليهم ( إلا من اتبعك من الغاوين ) استثناء منقطع. وقد أورد ابن جرير ههنا من حديث عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن موهب, حدثنا يزيد بن قسيط قال : كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجة من قراهم, فإذا أراد النبي أن يستنبىء ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله له, ثم سأله ما بدا له, فبينا نبي في مسجده إِذ جاء عدو الله ـ يعني إِبليس ـ حتى جلس بينه وبين القبلة, فقال النبي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, قال: فردد ذلك ثلاث مرات, فقال عدو الله: أخبرني بأي شيء تنجو مني ؟ فقال النبي: بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم مرتين ؟ فأخذ كل واحد منهما على صاحبه, فقال النبي: إن الله تعالى يقول: ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ). قال عدو الله: قد سمعت هذا قبل أن تولد. قال النبي: ويقول الله: ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) , وإني و الله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك. قال عدو الله: صدقت بهذا تنجو مني, فقال النبي: أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم ؟ قال آخذه عند الغضب والهوى !!!
وهنا تتجلى العظمة والقوة والتحدي،، وأيُّ تحدي ؟؟!! فإبليس اللعين يتحدى الله عز وجل بكل سفور بأنه سيغوي وسيضلل عباده ويحرفهم عن جادة الصواب ويوقعهم في الموبقات والذنوب واتباعه والركون إليه ،، والله جلّ في علاه يباهي بعباده الذين قد هداهم فلا سبيل للشيطان عليهم ولا خوف ولا سلطان له عليهم ..
فما أعظمها من نعمة كبيرة أن نكون ممن اختصهم الله تعالى بقول ” عبادي ” أي عباده وأوليائه الذين سمت أرواحهم ونفوسهم عن كل ما يغضب الله تعالى فحيثما الحلال وجدهم وحيثما الحرام افتقدهم وللشبهات كانوا مجتنبين ،، يعبدون الله حقّ عبادته يؤدون فرائضه ويتقربون إليه بالنوافل لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ،، للمعروف آمرين وعن المنكر ناهين ولسان حالهم في كلِّ أحوالهم : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) .
ولكن ما الذي يريده الشيطان من عباد الله وما هي وسائله وكيف نردُّ كيده إلى نحره ؟؟؟
مما لا شكّ فيه أننا كمسلمين نرجو رحمة الله ونخشى عذابه يجب علينا أن ندرك حقيقة وجود إبليس وما هي أهدافه ،، فالشيطان يريد منّا أن نلج نار جهنم وأن يكون مصيرنا كمصيره والعياذ بالله ، ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ
السَّعِيرِ (6)) ،، والشيطان يريد أن يوقع المسلمين في الكفر والشرك ، ( إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيدا (117)) ،، والشيطان يصد عن سبيل الله ، (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18)) . فالشيطان قد كرّس كل جهده ووقته للصد عن طاعة الله وإفساد حياة المسلمين وإفساد عقائدهم وأخلاقهم في كلِّ كبيرة وصغيرة ، وقد سُئل الحسن البصري رحمه الله : أينام إبليس ؟ قال : لو ينام لوجدنا راحة ! والله يتوعد كل من يتبع خطى إبليس بنار وقودها الناس والحجارة اللهم أجرنا منها ومن عذابها اللهم آمين
والشيطان يريدُ أن تكون الذنوب والمعاصي هي الخبز اليومي للمؤمنين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أَلا إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بِلادِكُمْ ، وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ ، فَيَرْضَى بِهِ “ رواه الترمذي .
وهل هناك معصية أكبر من تعطيل حكم الله في الأرض ومن غياب الحاكم المسلم الذي يحكم بما أنزل الله فتكون كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ؟؟ أليس القعود عن العمل مع العاملين المخلصين لإقامة دولة الإسلام التي تستأنف الحياة الإسلامية وتطيق شرع الله هي طاعة للشيطان واتباع له ،، فكيف إذن سيرضى الله عنّا وعنكم أيها المسلمون وتكونون من عباده الذين يباهي بهم ويتحدى بهم إبليس وأنتم لا تحركون ساكناً لهذا الواقع الأليم الذي تعاني منه الأمة الإسلامية اليوم ؟؟!!
إن الواجب على المسلمين اليوم أن لا يجعلوا للشيطان عليهم سبيلا وذلك بردِّ كيده إلى نحره والتغلب عليه بكل قوة والفوز برضى الله تعالى ومغفرته ورحمته وجنته وذلك بتحصين أنفسهم منه بكثرة ذكر الله والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم وحضور حلقات العلم واجتناب الهوى واجتناب الشبهات والبعد عن المحرمات والتزود من النوافل والطاعات ولزوم جماعة المسلمين وحمل الدعوة مع العاملين المخلصين الذين يسعون لإيجاد الدولة الإسلامية التي توفر الجو الإيماني الذي يساعد المؤمن على درء مفاسد الشيطان عن نفسه بغياب العوامل المساعدة التي يوفرها غياب الحياة الإسلامية وغياب أحكام الله عن الوجود ،، حتى نكون من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سلطان بحول الله وقوته ونفوز برضاه وجنته جلّ في علاه ..
أم القعقاع