الأندلسُ الفردوس المفقودُ من الفتحِ إلى السقوطِ -ح9- إستمرار الفتوحات لتبليغ الرسالة
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، ونكمل معكم من جديد سلسلة حلقات الأندلس المفقود نتناول معها أحداث فتح الأندلس وكيفية السقوط
واليوم سنتحدث بإذنه تعالى عن باقي الفتوحات بعد أن فتح أَشبيليّة توجه طارق بن زياد إلى مدينة أَسْتُجّة، و هي أيضا من مدن الجنوب، بجيش لا يتعدى التسعة آلاف رجل ومن ثم توجه إلى الشمال حتى وصل إلى طُلَيْطِلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمن، فقد بعث بسرية إلى قرطبة، وسرية إلى غِرناطة، وسرية إلى مَالْقة، وسرية إلى مُرْسِيَه، وهذه كلها من مدن الجنوب المنتشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والمطلة على مضيق جبل طارق، وكان كل من هذه السرايا لا يزيد عدد الرجال فيها عن سبعمائة رجل، ومع ذلك فقد فُتحت قرطبة على قوتها وعظمتها بسرية من تلك التي لا تتعدى السبعمائة رجل [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى] {الأنفال:17}. ثم ظل طارق بن زياد رحمه الله متوجها ناحية الشمال حتى وصل إلى مدينة جَيّان وهي من مدن النصارى الحصينة جدا.
وقد كان موسى بن نصير رحمه الله الذي اتسم بالحكمة والأناة قد أوصى طارق بن زياد ألا يتجاوز مدينة جَيّان أو لا يتجاوز مدينة قرطبة، و أمره ألا يسرع في الفتح في طريقه إلى العاصمة طليطلة حتى لا يحوطه جيش النصارى.
لكن طارق بن زياد وجد أن الطريق أمامه مفتوحًا، ووجد أن الطريق إلى طليطلة ليس فيه من الصعوبة شيء؛ فاجتهد برأيه، وعلى خلاف رأي الأمير موسى بن نصير وجد أن هذا هو الوقت المناسب لفتح طليطلة العاصمة، وقد كانت تعد أحصن مدن النصارى على الإطلاق، فرأى أنه إن هاجمها في هذه الفترة التي يكتنف النصارى فيها ضعفا شديدا لا يستطيعون معه مقاومة جيش المسلمين فقد يتمكن من فتحها، الأمر الذي قد يتعذر بعد ذلك فلا يستطيع فتحها.
وكان الواجب في هذا الأمر أن يستشير طارق بن زياد موسى بن نصير في المغرب، وأن يرسل إليه ولو رسالة يشرح له فيها طبيعة الموقف، وأن الطريق مهيأ أمامه لفتح طليطلة، ويستوضح رأيه ورده في ذلك.
أما طارق بن زياد فقد أسرع في اتجاه طليطلة دون استئذان من موسى بن نصير، وكان موسى بن نصير قد علم بتقدم طارق لفتح طليطلة، ولكن لطول المسافات لم يستطع أن يلحق به فيكون مددا له.
كانت مدينة طليطلة من أحصن مدن الأندلس، بل هي أحصن مدينة في الأندلس؛ فقد كانت محاطة بجبال من جهة الشمال والشرق والغرب، أما الجهة المفتوحة وهي الجنوب فعليها حصن كبير جدا.
ومع ذلك فقد فتحت أبوابها لطارق بن زياد وصالحت على الجزية.
ودعونا نقف وقفة على موضوع الجزية قبل أن نكمل أحداث فتح الأندلس
والجزية هي حق أوصل الله المسلمين إليه من الكفار، خضوعاً منهم لحكم الإسلام. ويلتزم المسلمون للكفار الذين يعطون الجزية بالكف عنهم، والحماية لهم، ليكونوا بالكف آمنين، وبالحماية محروسين. والأصل في الجزية قوله تعالى في سورة التوبة: { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
وتؤخذ الجزية من أهل الكتاب، من اليهود ومن النصارى، سواء أكانوا عرباً أم غير عرب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذها من يهود اليمن، ومن نصارى نجران. عن عروة بن الزبير قال: كتب رسول صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى أهل اليمن: “ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها وعليه الجزية”
وتؤخذ كذلك من غير أهل الكتاب: من المجوس والصابئة والهندوس والشيوعيين، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذها من مجوس هجر. عن الحسن بن محمد قال: ” كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام فمن قبل قبل منه، ومن لا ضربت عليه الجزية، في أن لا تؤكل لهم ذبيحة، ولا تنكح لهم امرأة”.
أما العرب من عبدة الأوثان، فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، وإلا فالسيف، لقوله تعالى: ” فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ” التوبة الآية 5
وتؤخذ الجزية من الرجال العقلاء البالغين. ولا تؤخذ من صبي ولا مجنون ولا إمرأة. فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى اليمن” أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً”.
ولا تؤخذ الجزية إذا كانوا فقراء يتصدق عليهم, فإن الجزية تسقط عنهم، ولا تؤخذ منهم، لأنهم لا يطيقون دفعها. والآية تقول:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } البثرة آية 286. وعن عمر بن الخطاب” أنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل عن أبواب الناس، فقال له ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والسن والحاجة. فقال له: ما أنصفناك عن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك”، وأخذه إلى بيته، وأعطاه ما يقتيه، ثم أرسله إلى خازن بيت المال، وأمره أن يسقط عنه الجزية، وأن يعطيه من مال بيت المال.
أما مقدار الجزية فإن الجزية التي فرضت أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلفاء من بعده لم يكن واحداً بل اختلف من مكان إلى آخر. فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً عندما أرسله إلى اليمن أن يأخذ” من كل حالم من أهل الذمة ديناراً أو عدله معافر”.
وعمر فرض على أهل الشام ومصر على الغني أربعة دنانير، وعلى المتوسط دينارين، وعلى الفقير المكتسب ديناراً، كما فرض عليهم فوق ذلك طعاماً للجند، وضيافة للمسلمين، وفرض على أهل العراق ثمانية وأربعين درهماً على الغني، وأربع وعشرين درهماً على المتوسط، واثني عشر درهماً على الفقير المكتسب
وفي صحيح البخاري عن أبي نجيح قال: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من قبل اليسار.
ومن هذا يتبن أن مقدار الجزية ليس واحداً، وليس محدداً بحد واحد لا يجوز تعديه كأنصبة للزكاة، بل ترك ذلك لرأي الخليفة واجتهاده، ويراعى فيه ناحية اليسار والضيق بحيث لا يشق على أهل الذمة، ولا يكلفهم فوق طاقتهم، كما يراعى فيه أن لا يظلم بيت المال، وأن لا يحرمه من مال مستحق له في رقاب أهل الذمة.
وتقدير حد الغنى والتوسط والفقر يرجع فيه إلى العرف، وإلى معرفة أهل الخبرة في ذلك. فيعين الخليفة من أهل الخبرة أشخاصاً للتمييز بين الأغنياء والمتوسطين والفقراء، ولوضع حدود للغنى، والتوسط والفقر، ولاقتراح المقدار الذي يتحمله الغنى والمتوسط والعامل المكتسب، ليكون تقدير الخليفة لمقدار الجزية بما يؤديه إليه رأيه واجتهاده على أساس ذلك، بحيث لا يجهد أهل الذمة، ولا يكلفهم فوق طاقتهم، ولا يظلم بيت المال فينقصه حقه.
ويعين جباة خاصون لاستيفاء الجزية وجبايتها، يخصص لهم قسم خاص بهم في دائرة الجزية من ديوان الفيء والخراج، وتكون مرتباتهم وأرزاقهم من بيت المال، وليس من أهل الذمة.
ويمنع الجباة من أخذ شيء يزيد عن المقدار المفروض على الأشخاص، تحت طائلة العقاب، كما يمنع الجباة من ضرب أو تعذيب أهل الذمة عند تحصيل الجزية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ولى عبد الله بن أرقم على جزية أهل الذمة، فلما ولى من عنده ناداه فقال:”ألا من ظلم معاهداًً، أو كلفه فوق طاقته، أو انتقضه، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة”.
ومن يدعى الإعسار من أهل الذمة يطلب منه أن يثبت إعساره، فإن أثبته أمهل إلى ميسرة، وإن لم يثبته، وثبت أنه مماطل سجن، وترك في السجن حتى يدفع الجزية، ولا يباع متاع الذمي لأداء الجزية.
ولا يتعين الذهب والفضة في الجزية، فيجوز أن تكون الجزية ذهباً أو فضة، ويجوز أن تكون غير ذلك من عروض أو حيوان، كما أن يجوز أن تقدر بالقيمة ويؤخذ بدلاً عنها. ولتسهيل الاستيفاء، والحفظ، والتوزيع، في هذه الأيام يجوز أن تجعل الجزية من النقد المتداول.
هذا هو موضوع الجزية ، ومن أراد الاستزادة فيمكنه مراجعة كتاب الأموال في دولة الخلافة للكاتب عبد القديم زلوم رحمه الله تعالى وجعل اللهم مثواه وإيانا الفردوس الأعلى
نأتي الآن إلى ختام حلقتنا لهذا اليوم ونعود إليكم الأسبوع القادم ومع حلقة جديدة من حلقات الأندلس الفردوس المفقود ، نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته