الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط -ح10- توقف للاستمرار
يتجدد لقاؤنا معكم ومع سلسلتنا المتواصلة ، الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط ، ودعونا نكمل وإياكم سير الأحداث التي جرت أثناء الفتح .
قلنا أن طارق بن زياد تقدم تقدما سريعا في فتوحاته في بلاد الأندلس وأشرنا إلى أن هذه الشرعى لم تنل قبولا لدى موسى بن نصير؛ إذ وجد فيه تهورا كبيرا لا يُؤْمن عواقبه، وكان قد عُرف عن موسى بن نصير الأناة والحكمة والصبر في كل فتوحاته في شمال أفريقيا حتى وصل إلى المغرب، ومن ثم فقد بعث برسالة شديدة اللهجة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالكف عن الفتح وبالانتظار حتى يصل إليه؛ وذلك خشية أن تلتف حوله الجيوش النصرانية.
وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير يُعد العدة لإمداد طارق بن زياد بعد أن انطلق إلى هذه الأماكن البعيدة الغائرة في وسط الأندلس، فجهز من المسلمين ثمانية عشر ألفا.
أن المسلمين من مشارق الأرض و مغاربها قد انهمروا على أرض الأندلس حين علموا أن فيها جهادا، فقد كان جل الاثني عشر ألف مسلم الذين فتحوا الأندلس مع طارق بن زياد من البربر، أما هؤلاء الثمانية عشر ألفا فهم من العرب الذين جاءوا من اليمن والشام والعراق، اجتازوا كل هذه المفاوز البعيدة حتى وصلوا إلى بلاد المغرب، ثم عبروا مع موسى بن نصير إلى بلاد الأندلس نصرة ومددا لطارق بن زياد.
عبر موسى بن نصير بجيشه إلى بلاد الأندلس وكان ما توقعه؛ فقد وجد أن النصارى قد نقضوا عهدهم مع طارق في أَشبيليّه، وهي المدينة الحصينة الكبيرة التي كانت قد صالحت طارقا على الجزية، وكانوا قد جهّزوا العدة كي يأتوا طارقا من خلفه، ولكن يُقدّر الله أن يفاجَئوا بجيش موسى بن نصير رضي الله عنه وهو قادم فيحاصر أشبيليه.
واصل موسى بن نصير سيره نحو طارق بن زياد وفي طريقه فتح الكثير من المناطق العظيمة حتى وصل إلى منطقة تسمى مَرْدَه، كل هذا وطارق بن زياد في طليطلة ينتظر قدومه، وكانت مرده هذه من المناطق التي تجمّع فيها كثير من القوط النصارى، فحاصرها موسى بن نصير حصارا بلغ مداه أيضا شهورا، كان آخرها شهر رمضان، ففي أواخره وفي عيد الفطر المبارك وبعد صبر طويل فتحت المدينة أبوابها، وصالح أهلها موسى بن نصير على الجزية، فهكذا كانت تمر الأعياد على المسلمين.
وليست كأعيادنا اليوم والتي لا تمر إلا بقتل وتدمير وتهجير وانتهاك اعراض المسلمين في كافة اصقاع الأرض ، فقد أصبحنا بالفعل كالأيتام على موائد اللئام ، نهبة لكل طامع ، ومرتع لكل راع ، ولن يتغير هذا الحال إلا بعودة دولة الإسلام يحكمها خليفة ، جنة يقاتل من وراءه ويتقى به ، نسأله تعالى أن يكون قريبا إن شاء الله.
لم يكتف موسى بن نصير بذلك، بل أرسل ابنه عبد العزيز بن موسى بن نصير رضي الله عنهم الذي تربى كأبيه وجده على الجهاد؛ ليفتح مناطق أوسع ناحية الغرب، وقد توغل عبد العزيز في الغرب كثيرا، حتى إنه في فترات معدودة فتح كل غرب الأندلس والتي تسمى حاليا دولة البرتغال، فقد وصل إلى لشبونة وفتحها ثم فتح البلاد التي في شمالها، وبهذا يُعد عبد العزيز بن موسى بن نصير فاتح البرتغال.
ذكرت بعض المصادر أنه لما التقى موسى بن نصير وطارق بن زياد أمسك موسى بطارق وعنفه ووبّخه، بل تذكر أنه قيّده وضربه بالسوط. والحقيقة أن مثل هذا لم يأت إلا من خلال الروايات الأوروبية فقط، وهو لم يحدث على الإطلاق، والذي حدث أن موسى بن نصير قد عنّف طارق بن زياد بالفعل على معصيته له بعدم البقاء في قرطبة أو جيّان واستمراره حتى طليطلة كما ذكرنا، وقد كان تعنيفا سريعا إلا أنه كان لقاء حارا بين بطلين افترقا منذ سنتين كاملتين، منذ رمضان سنة اثنتين وتسعين من الهجرة وحتى ذي القعدة سنة أربع وتسعين.. فقد أخذت الحملة التي قادها طارق بن زياد حتى وصل إلى طليطلة عاما كاملا، وكذلك استغرقت الحملة التي قادها موسى بن نصير حتى قابل طارق في نفس المكان عاما كاملا.
وبعد اللقاء اتحدا سويا واتجها معا إلى فتح منطقة الشمال والشمال الشرقي والشمال الغربي، فبدآ بمنطقة الشمال ومرّا بمناطق عدة، كان منها على سبيل المثال منطقة برشلونة ففتحاها سويا (الكثير لا يعلم عن برشلونة إلا أن هذا اسم فريق كرة قدم متميز، ولم يدر بخلده أنه في يوم ما كان قد دخلها المسلمون الفاتحون وحكّموا فيها شرع الله سبحانه وتعالى).
وهكذا كانت همم الأجداد المسلمين التي ناطحت السحاب، فقد اتجها بعد ذلك سويا إلى مدينة سَرَقُسْطَة وهي أعظم مدن الشمال الشرقي ففتحوها، واتجها أيضا إلى منطقة شمال الوسط، ثم إلى الشمال الغربي.
وفي منطقة الشمال قام موسى بن نصير بعمل يُحسد عليه؛ فقد أرسل سرية خلف جبال البِرِينيه، وهي الجبال التي تفصل بين فرنسا وبلاد الأندلس، وتقع في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، عبرت هذه السرية جبال البرينيه ثم وصلت إلى مدينة تُسمّى أربونة، وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبذلك يكون موسى بن نصير قد أسس نواة لمقاطعة إسلامية سوف تكبر مع الزمان كما سيأتي بيانه بمشيئة الله.
وبعد هذه السرية الوحيدة التي فتحت جنوب غرب فرنسا اتجه موسى بن نصير بجيشه إلى الشمال الغربي حتى وصل إلى آخره، وقد ظل المسلمون يفتحون مدن الأندلس المدينة تلو الأخرى حتى تم الانتهاء من فتح كل بلاد الأندلس، إلا منطقة واحدة في أقصى مناطق الشمال الغربي وتُسمى منطقة الصخرة أو صخرة بيليه، وهي تقع على خليج بسكاي عند التقائه مع المحيط الأطلنطي.
ففي زمن قُدّر بثلاث سنوات ونصف السنة، ابتدأ من سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، وانتهى في آخر سنة خمس وتسعين من الهجرة كان قد تم للمسلمين فتح كل بلاد الأندلس خلا صخرة بيليه هذه، ورغم أن المسلمين حاصروها حصارا طويلا إلا أنهم لم يستطعوا أن يفتحوها، وعزم موسى بن نصير رحمه الله على أن يتم فتح هذه الصخرة ويستكمل الفتح إلى نهايته، إلا أنه حدث ما لم يجل بخاطره.
فما الذي حصل وما هو مصير هذه الصخرة هذا ما سنعرفه من خلال باقي حلقاتنا إن شاء الله ، نلقاكم الأسبوع القادم بإذن المولى وقدرته ، فإلى ذلك الحين نستودعكم الله ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.