ما يحدث للشباب غزو فكري مدمر
ما إن يبدأ عازف الأورغن (طاسو) عزف الموسيقى حتى تمتلئ الساحة عن بكرة أبيها بالرقص المجنون دون وعي، والمدهش في الأمر الذي لم يوجد له تفسير حتى الآن أن الراقصين الشباب يحملون على أياديهم أشياء غريبة أنابيب غاز، كراسي، ركشات وحمير، مثلما ظهر في آخر فيديو نشر على منصات التواصل الراقصون يحملون (حماراً) وقبله (ركشة)!
ظاهرة الموسيقى (الطاسوية) ليست محصورة عند فئة أو مجتمع معين بيد أنها استطاعت في وقت وجيز أن تخترق كل الطبقات، تسمعها في قاع المدينة وبين الأحياء الشعبية وفوق سطوح مباني المناطق الثرية رغم أنها موسيقى تفاصيلها أجنبية. (اليوم التالي، الاثنين 24 شباط/فبراير2020م).
حري بنا أن نبحث لماذا وصل حال الشباب لهذا الحد من التهور وعدم المسؤولية؟
تمتلئ وسائل الإعلام بالحديث عن سن المراهقة وأنها فترة حرجة تبرز بقوة عند الشاب دوافع الشهوات والأهواء، وتتوقّد الأحلام والمخيّلات، وتتأجّج مظاهر الحيوية والنشاط في نفسه، ويتحدّد كثير من أهدافه من خلال شهواته وغرائزه، وترسم له مخيلته الطرق للوصول إليها، فيخترق الحواجز والممنوعات التي يواجهها، وتصبح قواه العقلية ضعيفة التأثير في مجرى حياته، بينما تسيطر عليه مشاعر الأنانية وحب الذات وتغليب مصلحته الشخصية على مصلحة المجتمع، وتنقلب المفاهيم والقيم في عقليته، وتصبح رغباته هي أساس الفضيلة والنظام والتقدم المجتمعي. يصور جان جاك روسو هذه الحقيقة في كتابه “أميل” بقوله: (إن الفضيلة كما يقولون هي حب النظام، لكن هل يستطيع هذا الحب أن يغلّب النظام على مسرّتي الخاصة؟ وهل هو سبب كافٍ لتفضيل النظام على متعتي… فالرذيلة يمكن أن تصبح هي حب النظام لكن بوجه مختلف).
هكذا يقدمون للشباب تبريراً لما يقومون به من أفعال شاذة منحرفة ولا شك في أن الجري وراء الرغبات والشهوات بكل الوسائل يأخذ من حياة الشاب الجدية والمسؤولية، وكثرة التفكير في أهوائه يصرفه عن الاهتمام بالقضايا المهمّة والمصيرية في الحياة. وفي النهاية يضيع منه كل شيء، فلا هو أشبع رغباته، ولا استفاد من فرص الحياة في العمل والتعلّم وبناء شخصيته وكيانه في المجتمع.
وتصبح هذه الثقافة التي انتشرت هي المغذي لوجود ممارسات متهورة وغير مسؤولة وهي ثقافة مسمومة واردة من الغرب، تعمدوا فيها توجيه أذهان الشباب بعيداً عن الإسلام بعد تشويه أحكامه وذلك بعد ترويج فكرة أن الإسلام هو نمط من الفكر البدائي المتخلف الذي تؤمن به شعوب بدائية يحول بينها وبين التقدم بمعناه الغربي في خلط متعمد بين الحضارة والمدنية، فعمدوا إلى تغريب عقول شبابنا بثقافتهم الفاسدة ليتبنوا نموذجهم الغربي بدلاً من النموذج الإسلامي. ومع ذلك لم يجن الشباب النهضة ولا التقدم.
لقد تعددت الوسائل والأساليب لتغريب المسلمين وإفقاد شباب الأمة ثقافتهم الإسلامية، ويبقى الهدف واحدا، ألا وهو القضاء على أي نهضة يتلمسها أعداء الأمة في البلاد الإسلامية، بل والعمل الحثيث على استحالة حدوث أي بوادر لنهضة حقيقية لعلمهم وقناعتهم أنها بداية نهايتهم المحتومة ولو بعد حين.
لقد أوجدت سياسة الحكومات المحلية والممنهجة لنشر العلمانية، العديد من مصادر الإلهاء والانشغال لفتيان وفتيات الأمة، ووجهت أنظارهم واهتمامهم نحو سفاسف الأمور، والتي أصبحت بالنسبة إليهم شغلهم الشاغل، والتي من أجلها يبذلون طاقتهم ويقضون معظم أوقاتهم في سبيل تحقيق سعادة آنية متأثرين بما في المجتمعات الغربية من انحرافات أخلاقية وإغراق للنفس في الملذات من إدمان المخدرات والكحول.
وأما فيما يتعلق بمسألة الاتصال والإنترنت ومواقع التواصل، بحجة أن هذه التقنيات يستخدمها المتطرفون لنشر أفكار العنف وتمكنوا من استغلالها لتجنيد الشباب، فإن الأمم المتحدة سنت قوانين واتفاقيات دولية ستدعم آلاف الشباب الناشطين والفنانين في جميع أنحاء العالم في الصراع ضد التطرف العنيف من خلال استخدام وسائل الإعلام عبر الإنترنت، ومن خلال الموسيقى والفن والأفلام والرسوم الساخرة والفكاهة. ولكننا في الوقت نفسه نعلم أن الدول الغربية خلال القرن الماضي هي التي قادت الابتكار في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ولقد جعلوا من هذه التكنولوجيا أداة لنشر الثقافة العلمانية وذلك من خلال الترويج لطراز الحياة الغربية التي لا تهتم إلا بالشهوات، والقيم المادية والاستهلاكية والفردية والإباحية، فقد دمروا بواسطتها أطفال وشباب المسلمين.
لقد خدرت مواقع التواصل أطفال وشباب المسلمين، فهم يقضون معظم أوقاتهم في إجراء تحديثات لملفاتهم على هذه الوسائل والتي لا طائل منها، ويقومون بالدردشة مع الأصدقاء وخاصة من الجنس الآخر، ويتتبعون الإشاعات عن طريقة عيش الفنانين. وإن فكرة الإغراء التي يقدمها العمل في مجال الترفيه، أو تحقيق ربح سريع من خلال العمل كممثل أو مغنٍ، قد جعل أطفال وشباب المسلمين على استعداد للوقوف في طوابير طويلة وفي الطقس الحار والبارد للمشاركة في تجارب الأداء لمسابقات المواهب المتعددة.
لقد ضيّعت هذه الثقافة الغربية بفعل رعاية الحكومات المحلية لها، التي لا تحاسب الشباب على قضاء أواقتهم أمام نهر النيل وفي الحفلات بل وداخل حرم الجامعات، ضيعت قوة شباب الأمة الإسلامية وأهدرت طاقاتهم واستنفدت إمكانياتهم وجعلتهم تائهين بلا هدف واضح ومبين، ضائعين بين المطرقة والسندان، مغيّبين عن قضايا أمتهم الحقيقية ومهمشين عن لعب دورهم الحقيقي وتحقيق غايتهم التي من أجلها خلقوا في هذه الحياة، وهي نيل رضوان الله تعالى في كل أعمالهم. وهذه هي السعادة المرجوة عند كل إنسان مسلم يبتغي الثواب في يوم الحساب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي e: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ…». رواه البخاري ومسلم.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذة غادة عبد الجبار (أم أواب) – الخرطوم
2020_02_28_Art_What_is_happening_to_young_people_is_a_devastating_intellectual_invasion_AR_OK.pdf